للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: ٨٠] فَقَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: ٥٩] فَإِذَا أَمَرَنَا الرَّسُولُ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ، وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ جِهَةَ أَمْرِهِ، وَطَاعَتُهُ طَاعَةُ اللَّهِ، لَا تَكُونُ طَاعَتُهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ قَطُّ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ مِنْ خَصَائِصِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَيُكْرَمُ بِهِ، مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهِ. وَبَعْضُ ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهُ مُتَنَازَعٌ فِيهِ. وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إمَامُ الْأُمَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يُقَسِّمُ، وَهُوَ الَّذِي يَغْزُو بِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ الْحُدُودَ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِي الْحُقُوقَ، وَهُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ بِحَسَبِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ، فَإِمَامُ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ يَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ، وَأَمِيرُ الْغَزْوِ يَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ، وَاَلَّذِي يُقِيمُ الْحُدُودَ يَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ. وَاَلَّذِي يَقْضِي أَوْ يُفْتِي يَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ.

وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي أُمُورٍ فَعَلَهَا: هَلْ هِيَ مِنْ خَصَائِصِهِ أَمْ لِلْأُمَّةِ فِعْلُهَا؟ كَدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ إمَامًا، بَعْدَ أَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ غَيْرُهُ، وَكَتَرْكِهِ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَالِّ وَالْقَاتِلِ. وَأَيْضًا فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا لِسَبَبٍ، وَقَدْ عَلِمْنَا ذَلِكَ السَّبَبَ، أَمْكَنَنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ نَعْلَمْ السَّبَبَ، أَوْ كَانَ السَّبَبُ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا، فَهَذَا مِمَّا يَتَنَازَعُ فِيهِ النَّاسُ: مِثْلَ نُزُولِهِ فِي مَكَان فِي سَفَرِهِ. فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَنْزِلَ حَيْثُ نَزَلَ، كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ نَفْسُ مُوَافَقَتِهِ فِي الْفِعْلِ هُوَ حَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ هُوَ اتِّفَاقًا، وَنَحْنُ فَعَلْنَاهُ لِقَصْدِ التَّشَبُّهِ بِهِ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّمَا تُسْتَحَبُّ الْمُتَابَعَةُ إذَا فَعَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ، فَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ اتِّفَاقًا لَمْ يُشْرَعْ لَنَا أَنْ نَقْصِدَ مَا لَمْ يَقْصِدْهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يَفْعَلُونَ، كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ. وَأَيْضًا فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ، يَكُونُ تَارَةً فِي نَوْعِ الْفِعْلِ، وَتَارَةً فِي جِنْسِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِمَعْنًى يَعُمُّ ذَلِكَ النَّوْعَ وَغَيْرَهُ، لَا لِمَعْنًى يَخُصُّهُ، فَيَكُونُ الْمَشْرُوعُ هُوَ الْأَمْرُ الْعَامُّ.

مِثَالُ ذَلِكَ احْتِجَامُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ لِحَاجَتِهِ إلَى إخْرَاجِ الدَّمِ الْفَاسِدِ، ثُمَّ التَّأَسِّي هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِالْحِجَامَةِ؟ أَوْ الْمَقْصُودُ إخْرَاجُ الدَّمِ عَلَى الْوَجْهِ النَّافِعِ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>