للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِهَا، بَلْ مِنْ كَلَامِ السَّائِلِ الَّذِي أَخْبَرَ بِمَا وَقَعَ لَهُ، كَمَا قَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ: إنَّهُ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَلَوْ وَقَعَ عَلَى سُرِّيَّتِهِ لَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَكَمَا قَالَ لَهُ الْآخَرُ: رَأَيْت بَيَاضَ خَلْخَالِهَا فِي الْقَمَرِ، فَوَثَبْت عَلَيْهَا، وَلَوْ وَطِئَهَا بِدُونِ ذَلِكَ، كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ. فَالصَّوَابُ فِي هَذَا مَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْمَشْهُورُونَ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ مُعَلَّقٌ بِالْخَبِيثِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ، إذَا وَقَعَ فِي السَّمْنِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ، فَإِذَا عَلَّقْنَا الْحُكْمَ بِهَذَا الْمَعْنَى كُنَّا قَدْ اتَّبَعْنَا كِتَابَ اللَّهِ، فَإِذَا وَقَعَ الْخَبِيثُ فِي الطَّيِّبِ أُلْقِيَ الْخَبِيثُ وَمَا حَوْلَهُ، وَأُكِلَ الطَّيِّبُ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ مَوْضِعَ بَسْطٍ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَلَكِنْ نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَفْعَالِهِ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا. وَحِينَئِذٍ هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِاجْتِهَادِ النَّاسِ، وَاسْتِدْلَالِهِمْ وَمَا يُؤْتِيهِمْ اللَّهُ مِنْ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالْحَقِّ مَنْ عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِالْمَعَانِي، الَّتِي عَلَّقَهَا بِهَا الشَّارِعُ.

وَهَذَا مَوْضِعُ تَفَاوَتَ فِيهِ النَّاسُ وَتَنَازَعُوا: هَلْ يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ خِطَابِ الشَّارِعِ؟ أَوْ مِنْ الْمَعَانِي الْقِيَاسِيَّةِ؟ فَقَوْمٌ زَعَمُوا أَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا يَتَنَاوَلُهَا خِطَابُ الشَّارِعِ، بَلْ تَحْتَاجُ إلَى الْقِيَاسِ. وَقَوْمٌ زَعَمُوا أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِهَا ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ، وَأَسْرَفُوا فِي تَعَلُّقِهِمْ بِالظَّاهِرِ، حَتَّى أَنْكَرُوا فَحْوَى الْخِطَابِ وَتَنْبِيهَهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: ٢٣] ، وَقَالُوا: إنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى النَّهْيِ عَنْ التَّأْفِيفِ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ، وَأَنْكَرُوا " تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ " وَادَّعَوْا فِي الْأَلْفَاظِ مِنْ الظُّهُورِ مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَوْمٌ يُقَدِّمُونَ الْقِيَاسَ تَارَةً، لِكَوْنِ دَلَالَةِ النَّصِّ غَيْرَ تَامَّةٍ، أَوْ لِكَوْنِهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَأَقْوَامٌ يُعَارِضُونَ بَيْنَ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ وَيُقَدِّمُونَ النَّصَّ وَيَتَنَاقَضُونَ، وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لَا تَتَنَاقَضُ، فَلَا تَتَنَاقَضُ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ وَلَا تَتَنَاقَضُ دَلَالَةُ الْقِيَاسِ إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً، وَدَلَالَةُ الْخِطَابِ إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً.

فَإِنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ حَقِيقَةُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي أَنْزَلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>