اللَّهُ بِهِ الْكُتُبَ، وَأَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ، وَالرَّسُولُ لَا يَأْمُرُ بِخِلَافِ الْعَدْلِ، وَلَا يَحْكُمُ فِي شَيْئَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا يُحَرِّمُ الشَّيْءَ وَيُحِلُّ نَظِيرَهُ.
وَقَدْ تَأَمَّلْنَا عَامَّةَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي قِيلَ: إنَّ الْقِيَاسَ فِيهَا عَارَضَ النَّصَّ وَإِنَّ حُكْمَ النَّصِّ فِيهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. فَوَجَدْنَا مَا خَصَّهُ الشَّارِعُ بِحُكْمٍ عَنْ نَظَائِرِهِ، فَإِنَّمَا خَصَّهُ بِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِوَصْفٍ أَوْجَبَ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ، كَمَا خَصَّ الْعَرَايَا بِجَوَازِ بَيْعِهَا بِمِثْلِهَا خَرْصًا، لِتَعَذُّرِ الْكَيْلِ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيْعِ، وَالْحَاجَةُ تُوجِبُ الِانْتِقَالَ إلَى الْبَدَلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَصْلِ.
فَالْخَرْصُ عِنْدَ الْحَاجَةِ قَامَ مَقَامَ الْكَيْلِ، كَمَا يَقُومُ التُّرَابُ مَقَامَ الْمَاءِ، وَالْمَيْتَةُ مَقَامَ الْمُذَكَّى عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْقَرْضُ أَوْ الْإِجَارَةُ أَوْ الْقِرَاضُ أَوْ الْمُسَاقَاةُ أَوْ الْمُزَارَعَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ اخْتَصَّتْ بِصِفَاتٍ أَوْجَبَتْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مُخَالِفًا لِحُكْمِ مَا لَيْسَ مِثْلَهَا، فَقَدْ صَدَقَ.
وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ حَكَمَ فِيهِمَا بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَهَذَا خَطَأٌ، يُنَزَّهُ عَنْهُ مَنْ هُوَ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -.
وَلَكِنْ هَذِهِ الْأَقْيِسَةُ الْمُعَارِضَةُ هِيَ الْفَاسِدَةُ، كَقِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: ٢٧٥] وَقِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا " أَتَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ، وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ؟ " يَعْنُونَ الْمَيْتَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: ١٢١] . وَلَعَلَّ مِنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمًا، وَآتَاهُ مِنْ لَدُنْه عِلْمًا، يَجِدَ عَامَّةِ الْأَحْكَام الَّتِي تُعْلَمُ بِقِيَاسِ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ، كَمَا أَنَّ غَايَةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْعَدْلِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ: فَالْكَلَامُ فِي أَعْيَانِ أَحْوَالِ الرَّجُلِ السَّالِكِ يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ خَاصٍّ، وَاسْتِهْدَاءٍ مِنْ اللَّهِ، وَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ الْعَبْدَ أَنْ يَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: ٦] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: ٧] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute