حَتَّى قَالَ ابْنُ عُمَرَ: " مَا رَأَيْنَا وَلَا سَمِعْنَا " وَفِي رِوَايَةٍ «أَرَأَيْتُكُمْ قِيَامَكُمْ هَذَا: تَدْعُونَ. مَا رَأَيْنَا وَلَا سَمِعْنَا» أَفَيَقُولُ مُسْلِمٌ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْنُتُ دَائِمًا؟ ، وَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَا رَأَيْنَا، وَلَا سَمِعْنَا. وَكَذَلِكَ غَيْرُ ابْنِ عُمَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ، عَدُّوا ذَلِكَ مِنْ الْأَحْدَاثِ الْمُبْتَدَعَةِ.
وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا قَطْعِيًّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَقْنُتُ دَائِمًا فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ، كَمَا يُعْلَمُ عِلْمًا [يَقِينِيًّا] أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَى الْقُنُوتِ فِي الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ وَالْمَغْرِبِ، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ الْقُنُوتَ فِي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ سُنَّةً رَاتِبَةً يَحْتَجْ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ حُجَّةِ الْجَاعِلِينَ لَهُ فِي الْفَجْرِ سُنَّةً رَاتِبَةً. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَنَتَ فِي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ؛ لَكِنَّ الصَّحَابَةَ بَيَّنُوا الدُّعَاءَ الَّذِي كَانَ يَدْعُو بِهِ، وَالسَّبَبَ الَّذِي قَنَتَ لَهُ، وَأَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، نَقَلُوا ذَلِكَ فِي قُنُوتِ الْفَجْرِ، وَفِي قُنُوتِ الْعِشَاءِ أَيْضًا.
وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ يَقْنُتَ دَائِمًا بِقُنُوتِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَوْ بِسُورَتَيْ أُبَيٍّ لَيْسَ مَعَهُمْ إلَّا دُعَاءٌ عَارِضٌ وَالْقُنُوتُ فِيهَا إذَا كَانَ مَشْرُوعًا: كَانَ مَشْرُوعًا لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ؛ بَلْ وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ جَاعِلٌ قُنُوتَ الْحَسَنِ، أَوْ سُورَتَيْ أُبَيٍّ سُنَّةً رَاتِبَةً فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، لَكَانَ حَالُهُ شَبِيهًا بِحَالِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً رَاتِبَةً فِي الْفَجْرِ. إذْ هَؤُلَاءِ لَيْسَ مَعَهُمْ فِي الْفَجْرِ إلَّا قُنُوتٌ عَارِضٌ بِدُعَاءٍ يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْعَارِضَ، وَلَمْ يَنْقُلْ مُسْلِمٌ دُعَاءً فِي قُنُوتٍ غَيْرَ هَذَا، كَمَا لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ الْقُنُوتَ فِيهَا كَانَ أَكْثَرَ، وَهِيَ أَطْوَلُ. وَالْقُنُوتُ يَتْبَعُ الصَّلَاةَ، وَبَلَغَهُمْ أَنَّهُ دَاوَمَ عَلَيْهِ، فَظَنُّوا أَنَّ السُّنَّةَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا مَعَهُمْ سُنَّةً بِدُعَائِهِ. فَسَنُّوا هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ الْمَأْثُورَةَ فِي الْوِتْرِ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ سُنَّةً رَاتِبَةً فِي الْوِتْرِ.
وَهَذَا النِّزَاعُ الَّذِي وَقَعَ فِي الْقُنُوتِ لَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ: فَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَبَبٍ، فَيَجْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ سُنَّةً، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ السُّنَّةِ الدَّائِمَةِ وَالْعَارِضَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute