وَالْمَنْقُوصِ مِنْهُ الْمُشَبَّهَ، لَيْسَ مِثْلَ النَّاقِصِ وَالْمَنْقُوصِ وَالْمَنْقُوصِ مِنْهُ الْمُشَبَّهَ بِهِ، وَلِهَذَا كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُعَلِّمَ لَا يَزُولُ عِلْمُهُ بِالتَّعْلِيمِ، بَلْ يُشَبِّهُونَهُ بِضَوْءِ السِّرَاجِ الَّذِي يَحْدُثُ يَقْتَبِسُ مِنْهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَيَأْخُذُونَ مَا شَاءُوا مِنْ الشُّهُبِ، وَهُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ.
وَهَذَا تَمْثِيلٌ مُطَابِقٌ، فَإِنَّ الْمُسْتَوْقِدَ مِنْ السِّرَاجِ يُحْدِثُ اللَّهُ فِي فَتِيلَتِهِ أَوْ وُقُودِهِ نَارًا مِنْ جِنْسِ تِلْكَ النَّارِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ: إنَّهَا تَسْتَحِيلُ عَنْ ذَلِكَ الْهَوَاءِ، مَعَ أَنَّ النَّارَ الْأُولَى بَاقِيَةٌ، كَذَلِكَ الْمُتَعَلِّمُ يُجْعَلُ فِي قَلْبِهِ مِثْلُ عِلْمِ الْمُعَلِّمِ، مَعَ بَقَاءِ عِلْمِ الْمُعَلِّمِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ، أَوْ قَالَ: عَلَى التَّعْلِيمِ، وَالْمَالُ يَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ.
وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: إنَّ قَوْلَهُ: " مِمَّا عِنْدِي "، وَقَوْلُهُ: " مِنْ مُلْكِي "، هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَحِينَئِذٍ فَلَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا أَعْطَاهُمْ خَارِجًا عَنْ مُسَمَّى مُلْكِهِ وَمُسَمَّى مَا عِنْدَهُ، كَمَا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ نَفْسُ عِلْمِ مُوسَى وَالْخَضِرِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: بَلْ لَفْظُ الْمُلْكِ وَمَا عِنْدَهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَا أَعْطَاهُمْ فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ مُلْكِهِ وَمِمَّا عِنْدَهُ، وَلَكِنْ نُسِبَتْ إلَى الْجُمْلَةِ هَذِهِ النِّسْبَةُ الْحَقِيرَةُ. وَمِمَّا يُحَقِّقُ هَذَا الْقَوْلَ الثَّانِيَ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا فِيهِ: «لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمْ سَأَلُونِي حَتَّى تَنْتَهِيَ مَسْأَلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُونِي مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي كَمُغْرِزِ إبْرَةٍ لَوْ غَمَسَهَا أَحَدُكُمْ فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ أَنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ وَاجِدٌ، عَطَائِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ، إنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْتُهُ أَنْ أَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عَطَاءَهُ كَلَامٌ، وَعَذَابَهُ كَلَامٌ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " مِنْ مُلْكِي "، " وَمِمَّا عِنْدِي "، أَيْ مِنْ مَقْدُورِي، فَيَكُونُ هَذَا فِي الْقُدْرَةِ كَحَدِيثِ الْخَضِرِ فِي الْعِلْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ الَّذِي فِي نُسْخَةِ أَبِي مُسْهِرٍ: «لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا إلَّا كَمَا نَقَصَ الْبَحْرُ» . وَهَذَا قَدْ يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَمْ يَنْقُصْ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا لَكِنْ يَكُونُ حَالُهُ حَالَ هَذِهِ النِّسْبَةِ، وَقَدْ يُقَالُ بَلْ هُوَ تَامٌّ وَالْمَعْنَى عَلَى مَا سَبَقَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute