بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِاصْطِفَافُ وَاجِبًا لَجَازَ أَنْ يَقِفَ وَاحِدٌ خَلْفَ وَاحِدٍ، وَهَلُمَّ جَرًّا.
وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ عِلْمًا عَامًّا أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ لَفَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَوْ مَرَّةً؛ بَلْ وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلُوا الصَّفَّ غَيْرَ مُنْتَظِمٍ؛ مِثْلَ: أَنْ يَتَقَدَّمَ هَذَا عَلَى هَذَا، وَيَتَأَخَّرَ هَذَا عَنْ هَذَا، لَكَانَ ذَلِكَ شَيْئًا قَدْ عُلِمَ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، بَلْ إذَا صَلَّوْا قُدَّامَ الْإِمَامِ كَانَ أَحْسَنَ مِنْ مِثْلِ هَذَا.
فَإِذَا كَانَ الْجُمْهُورُ لَا يُصَحِّحُونَ الصَّلَاةَ قُدَّامَ الْإِمَامِ، إمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَكَيْفَ تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِ الِاصْطِفَافِ.
فَقِيَاسُ الْأُصُولِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاصْطِفَافِ، وَإِنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ لَا تَصِحُّ، كَمَا جَاءَ بِهِ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ، وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ هَذِهِ السُّنَّةُ مِنْ وَجْهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ لَمْ يَسْمَعْهَا، وَقَدْ يَكُونُ ظَنَّ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ.
وَاَلَّذِينَ عَارَضُوهُ احْتَجُّوا بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ مُنْفَرِدَةً، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ أَنَسًا وَالْيَتِيمَ صَفَّا خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَفَّتْ الْعَجُوزُ خَلْفَهُمَا» .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ وُقُوفِهَا مُنْفَرِدَةً إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْجَمَاعَةِ امْرَأَةٌ غَيْرَهَا، كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِوُقُوفِ الْإِمَامِ مُنْفَرِدًا.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ «أَبِي بَكْرَةَ لَمَّا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّفِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» .
وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَا تُقَاوِمُ حُجَّةَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ وُقُوفَ الْمَرْأَةِ خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ سُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، وَلَوْ وَقَفَتْ فِي صَفِّ الرِّجَالِ لَكَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا.
وَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ يُحَاذِيهَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ.
أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي حَفْصٍ. مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ.
وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ. كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي، وَغَيْرِهِمَا، مَعَ تَنَازُعِهِمْ فِي الرَّجُلِ الْوَاقِفِ مَعَهَا: هَلْ يَكُونُ فَذًّا أَمْ لَا؟ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ بُطْلَانُ صَلَاةِ مَنْ يَلِيهَا فِي الْمَوْقِفِ.