للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالثَّانِي: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ اخْتَارَهُ الْخِرَقِيِّ وَغَيْرُهُ.

وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ بِأَصْحَابِهِ، وَلَا يُعْلِمُهُمْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَقْصُرُ، وَلَا يَأْمُرُهُمْ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ.

وَلِهَذَا لَمَّا سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ نَاسِيًا قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: «أَقَصَرْت الصَّلَاةَ أَمْ نَسِيت؟ فَقَالَ: لَمْ أَنْسَ، وَلَمْ تَقْصُرْ، قَالَ: بَلَى؟ قَدْ نَسِيت» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَوْ كَانَ شَيْءٌ لَأَخْبَرْتُكُمْ بِهِ» وَلَمْ يَقُلْ: لَوْ قَصُرَتْ لَأَمَرْتُكُمْ أَنْ تَنْوُوا الْقَصْرَ، وَكَذَلِكَ لَمَّا جَمَعَ بِهِمْ لَمْ يُعْلِمْهُمْ أَنَّهُ جَمَعَ قَبْلَ الدُّخُولِ، بَلْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَجْمَعُ حَتَّى يَقْضِيَ الصَّلَاةَ الْأُولَى، فَعَلِمَ أَيْضًا أَنَّ الْجَمْعَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَنْ يَنْوِيَ حِينَ الشُّرُوعِ فِي الْأُولَى، كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ يُوَافِقُ ذَلِكَ.

وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّرْبِيعِ فِي السَّفَرِ: هَلْ هُوَ حَرَامٌ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ أَوْ تَرَكَ الْأَوْلَى؟ أَوْ هُوَ الرَّاجِحُ؟ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ الْقَصْرَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَأَحْمَدَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، بَلْ أَنَصُّهُمَا أَنَّ الْإِتْمَامَ مَكْرُوهٌ.

وَمَذْهَبُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ: أَنَّ الْقَصْرَ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَالتَّرْبِيعُ تَرْكُ الْأَوْلَى.

وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ أَنَّ التَّرْبِيعَ أَفْضَلُ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ.

وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ إلَّا مَعَ الْخَوْفِ، وَيَذْكُرُ هَذَا قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ، وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ آمَنَ مَا كَانَ النَّاسُ» .

وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ عُمَرُ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُسَوِّي بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ؟ ، وَفِعْلُ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا أَفْضَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبَيْهِمَا، بَلْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْجَمْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ.

فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ.

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ إذَا كَانَ نَازِلًا، وَإِنَّمَا يَجْمَعُ إذَا كَانَ سَائِرًا، بَلْ

<<  <  ج: ص:  >  >>