للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفِي التِّرْمِذِيِّ: أَنَّ «بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْعَمَلِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء: ٧٧] » الْآيَةَ.

فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى الْجِهَادِ وَأَحَبُّوهُ، فَلَمَّا اُبْتُلُوا بِهِ كَرِهُوهُ، وَفَرُّوا مِنْهُ، وَأَيْنَ أَلَمُ الْجِهَادِ مِنْ أَلَمِ النَّارِ وَعَذَابِ اللَّهِ الَّذِي لَا طَاقَةَ لِأَحَدٍ بِهِ. وَمِثْلُ هَذَا مَا يَذْكُرُونَهُ عَنْ سَمْنُونٍ الْمُحِبِّ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:

وَلَيْسَ لِي فِي سِوَاك حَظٌّ ... فَكَيْفَمَا شِئْت فَاخْتَبِرْنِي

فَأَخَذَ الْأَسْرُ مِنْ سَاعَتِهِ، أَيْ حُصِرَ بَوْلُهُ، فَكَانَ يَدُورُ عَلَى الْمَكَاتِبِ، وَيُفَرِّقُ الْجَوْزَ عَلَى الصِّبْيَانِ، وَيَقُولُ: اُدْعُوَا لِعَمِّكُمْ الْكَذَّابِ.

وَحَكَى أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ، أَنَّهُ قَالَ سَمْنُونٌ: يَا رَبِّ قَدْ رَضِيت بِكُلِّ مَا تَقْضِيهِ عَلَيَّ، فَاحْتَبَسَ بَوْلُهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَكَانَ يَتَلَوَّى كَمَا تَتَلَوَّى الْحَيَّةُ، يَتَلَوَّى يَمِينًا وَشِمَالًا، فَلَمَّا أُطْلِقَ بَوْلُهُ قَالَ: رَبِّ قَدْ تُبْت إلَيْك.

قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَهَذَا الرِّضَا الَّذِي ادَّعَى سَمْنُونٌ، ظَهَرَ غَلَطُهُ فِيهِ بِأَدْنَى بَلْوَى، مَعَ أَنَّ سَمْنُونًا هَذَا كَانَ يُضْرَبُ بِهِ الْمِثْلُ، وَلَهُ فِي الْمَحَبَّةِ مَقَامٌ مَشْهُورٌ. حَتَّى رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ فَاتِكٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت سَمْنُونًا يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَجَاءَ طَائِرٌ صَغِيرٌ فَلَمْ يَزَلْ يَدْنُو مِنْهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى يَدِهِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ بِمِنْقَارِهِ الْأَرْضَ حَتَّى سَقَطَ مِنْهُ دَمٌ، وَمَاتَ الطَّائِرُ. قَالَ: رَأَيْته يَوْمًا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَحَبَّةِ، فَاصْطَفَقَتْ قَنَادِيلُ الْمَسْجِدِ وَكَسَرَ بَعْضُهَا بَعْضًا.

وَقَدْ ذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ فِي بَابِ الرِّضَا عَنْ رُوَيْمٍ الْمُقْرِي رَفِيقِ سَمْنُونٍ حِكَايَةً تُنَاسِبُ هَذَا حَيْثُ قَالَ: قَالَ رُوَيْمٌ: إنَّ الرِّضَا لَوْ جَعَلَ جَهَنَّمَ عَنْ يَمِينِهِ مَا سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُحَوِّلَهَا عَنْ يَسَارِهِ، فَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ سَمْنُونٍ: " فَكَيْفَ مَا شِئْت فَامْتَحِنِّي ". وَإِذَا لَمْ يُطِقْ الصَّبْرَ عَلَى عُسْرِ الْبَوْلِ فَيُطِيقُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ عَنْ يَمِينِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>