مِثْلُ الضَّعِيفِ وَغَيْرُ الضَّعِيفِ، فَأَمَّا إذَا عَرَفَ ذَلِكَ فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، كَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَارَةً يَحْفَظُ الْإِسْنَادَ، وَتَارَةً يَغْلَطُ فِيهِ.
وَالْكُتُبُ الْمُسْنَدَةُ فِي أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ وَكَلَامِهِمْ، مِثْلُ كِتَابِ " حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ " لِأَبِي نُعَيْمٍ، " وَطَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ " لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، " وَصِفَةِ الصَّفْوَةِ " لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ، أَلَا تَرَى الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ مُسْنَدًا حَيْثُ قَالَ: " قَالَ لِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ: يَا أَحْمَدُ، لَقَدْ أُوتِيت مِنْ الرِّضَا نَصِيبًا لَوْ أَلْقَانِي فِي النَّارِ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا، فَهَذَا الْكَلَامُ مَأْثُورٌ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بِالْإِسْنَادِ، وَلِهَذَا أَسْنَدَهُ عَنْهُ الْقُشَيْرِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُسْنَدْ عَنْهُ، فَلَا أَصْلَ لَهَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ ".
ثُمَّ إنَّ الْقُشَيْرِيَّ قَرَنَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الثَّانِيَةَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بِكَلِمَةٍ أَحْسَنَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَرْوِيَهَا قَالَ: " وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَا» فَقَالَ: لِأَنَّ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَا هُوَ الرِّضَا "، فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عُثْمَانَ كَلَامٌ حَسَنٌ سَدِيدٌ.
ثُمَّ أَسْنَدَ بَعْدَ هَذَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: " أَرْجُو أَنْ أَكُونَ قَدْ عَرَفْت طُرُقًا مِنْ الرِّضَا، لَوْ أَنَّهُ أَدْخَلَنِي النَّارَ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا ".
فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ لَيْسَ هُوَ رِضًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا، وَإِنَّمَا الرِّضَا مَا يَكُونُ بَعْدَ الْقَضَا. وَإِنْ كَانَ هَذَا عَزْمًا، فَالْعَزْمُ قَدْ يَدُومُ، وَقَدْ يَنْفَسِخُ، وَمَا أَكْثَرَ انْفِسَاخِ الْعَزَائِمِ، خُصُوصًا عَزَائِمُ الصُّوفِيَّةِ، وَلِهَذَا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: " بِمَاذَا عَرَفْت رَبَّك، قَالَ: بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ فِي بَعْضِ الْهِمَمِ ".
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: ١٤٣] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٣] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: ٤] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute