للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طَبْعًا وَعَادَةً لَا شَرْعًا وَعِبَادَةً، فَلَيْسَ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَنْ أَدَعَ الدُّعَاءَ مُطْلَقًا لِتَقْصِيرِ هَذَا وَتَفْرِيطِهِ، بَلْ أَفْعَلُهُ أَنَا شَرْعًا وَعِبَادَةً.

ثُمَّ أَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُهُ شَرْعًا وَعِبَادَةً إنَّمَا يَسْعَى فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، وَطَلَبِ حُظُوظِهِ الْمَحْمُودَةِ. فَهُوَ يَطْلُبُ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، بِخِلَافِ الَّذِي يَفْعَلُهُ طَبْعًا. فَإِنَّهُ إنَّمَا يَطْلُبُ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُ فَقَطْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: ٢٠٠] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: ٢٠١] {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: ٢٠٢] . وَحِينَئِذٍ فَطَالِبُ الْجَنَّةِ وَالْمُسْتَعِيذُ مِنْ النَّارِ إنَّمَا يَطْلُبُ حَسَنَةَ الْآخِرَةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ.

وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ، أَنْ يَرُدَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْعَلُ مَأْمُورًا، وَلَا يَتْرُكُ مَحْظُورًا، فَلَا يُصَلِّي، وَلَا يَصُومُ، وَلَا يَتَصَدَّقُ، وَلَا يَحُجُّ، وَلَا يُجَاهِدُ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ الْقُرُبَاتِ. فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا فَائِدَتُهُ حُصُولُ الثَّوَابِ وَدَفْعُ الْعِقَابِ. فَإِذَا كَانَ هُوَ لَا يَطْلُبُ حُصُولَ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ الْجَنَّةُ. وَلَا دَفْعَ الْعِقَابِ الَّذِي هُوَ النَّارُ. فَلَا يَفْعَلُ مَأْمُورًا وَلَا يَتْرُكُ مَحْظُورًا. وَيَقُولُ: أَنَا رَاضٍ بِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ بِي وَإِنْ كَفَرْت وَفَسَقْت وَعَصَيْت. بَلْ يَقُولُ: أَنَا أَكْفُرُ وَأَفْسُقُ وَأَعْصِي حَتَّى يُعَاقِبَنِي وَأَرْضَى بِعِقَابِهِ. فَأَنَالَ دَرَجَةَ الرِّضَا بِقَضَائِهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ هُوَ أَجْهَلُ الْخَلْقِ وَأَحْمَقُهُمْ وَأَضَلُّهُمْ وَأَكْفَرُهُمْ؛ أَمَّا جَهْلُهُ وَحُمْقُهُ فَلِأَنَّ الرِّضَا بِذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مُتَعَذِّرٌ. لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَأَمَّا كُفْرُهُ فَلِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْطِيلِ دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُلَاحَظَةَ الْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ أَوْقَعَتْ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ فِي أَنْ تَرَكُوا مِنْ الْمَأْمُورِ، وَفَعَلُوا مِنْ الْمَحْظُورِ، مَا صَارُوا بِهِ إمَّا نَاقِصِينَ مَحْرُومِينَ، وَإِمَّا عَاصِينَ فَاسْقِينَ، وَإِمَّا كَافِرِينَ. وَقَدْ رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ أَلْوَانًا، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ.

وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ طَرَفًا نَقِيضَ، هَؤُلَاءِ يُلَاحِظُونَ الْقَدَرَ

<<  <  ج: ص:  >  >>