وَإِنَّمَا اعْتَمَدَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي، حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» وَكَمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً تُبَلِّغُنِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ» فَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، فَلِهَذَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَمَالِكٌ قَدْ أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ عِنْدَهُمْ أَلْفَاظُ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ يَدْعُو: بَلْ وَكَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يَقُومَ لِلدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ هُنَاكَ، وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَنَّهُ لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا.
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي أَسْبَابِ كَرَاهَتِهِ، أَنْ يَقُولَ: زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُرِيدُ بِهِ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ، وَهِيَ قَصْدُ الْمَيِّتِ لِسُؤَالِهِ، وَدُعَائِهِ، وَالرَّغْبَةُ إلَيْهِ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَهُمْ يَعْنُونَ بِلَفْظِ الزِّيَارَةِ مِثْلَ هَذَا، وَهَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فَاسِدٍ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ.
أَمَّا لَفْظُ الزِّيَارَةِ فِي عُمُومِ الْقُبُورِ فَقَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُمَا مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: «فَزُورُوا الْقُبُورَ. فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» مَعَ زِيَارَتِهِ لِقَبْرِ أُمِّهِ، فَإِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ زِيَارَةَ قُبُورِ الْكُفَّارِ، فَلَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ زِيَارَةُ الْمَيِّتِ لِدُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَزُورُ مُعَظَّمًا فِي الدِّينِ: كَالْأَنْبِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ. فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَعْنِي بِزِيَارَةِ قُبُورِهِمْ هَذِهِ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ وَالشِّرْكِيَّةَ، فَلِهَذَا كَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذَا. وَإِنْ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ.
فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَرْوِيَ بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute