وحاصل ما تقدم: أن الوعيد فيمن أم قومًا وهم له كارهون رُوي من طرق تصلح في باب الشواهد والمتابعات، مما يعضد بعضها بعضًا، من حديث: عبد الله بن عمرو، وابن عباس، وأبي أمامة، وعمرو بن الحارث المصطلقي، وأنس بن مالك، ومرسل الحسن، مما يجعل النفس تطمئن لثبوتها، لمجيئها من هذه الطرق التي يقوي بعضها بعضًا، مع خلوها من الشذوذ والنكارة، والله أعلم.
وأما قول الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في الأم (١/ ١٦٠) عن هذا الحديث: "ولم أحفظه من وجهِ يُثْبِتُ أهلُ العلم بالحديث مثلَه" [المعرفة للبيهقي (٢/ ٤٠٧)، السنن الكبرى له (٣/ ١٢٨)]، فلعله عنى بذلك أحد أسانيده الضعيفة، ولذلك حمل النووي في الخلاصة (٢٤٦٠) تضعيف الشافعي على حديث عبد الله بن عمرو، كما سبق نقله في موضعه، والله أعلم.
• ومن فقه الحديث:
قال هناد: قال جرير: قال منصور: فسألنا عن أمر الإمام؟ فقيل لنا:"إنما عنى بهذا أئمةَ ظلمةَ، فأما من أقام السُّنَّة فإنما الإثم على من كرهه" [جامع الترمذي (٣٥٩)].
وقال الترمذي:"وقد كره قوم من أهل العلم أن يؤمَّ الرجل قومًا وهم له كارهون، فإذا كان الإمامُ غيرَ ظالمٍ فإنما الإثمُ على من كرهه، وقال أحمد وإسحاق في هذا: إذا كره واحد أو اثنان أو ثلاثة فَلا بأس أن يصلي بهم حتى يكرهه أكثر القوم".
وقال الخطابي في المعالم (١/ ١٤٦): "يشبه أن يكون هذا الوعيد في الرجل ليس من أهل الإمامة فيقتحم فيها، ويتغلب عليها حتى يكره الناس إمامته، فأما إن كان مستحقًّا للأمامة فاللوم على من كرهه دونه".
وقال النووي في المجموع (٤/ ٢٤٠) نقلًا عن أصحابه الشافعية: "يكره أن يؤم قومًا وأكثرهم له كارهون، ... ، وإنما تكره إمامته إذا كرهوه لمعنى مذموم شرعًا، كوالٍ ظالم، وكمن تغلب على إمامة الصلاة ولا يستحقها، أو لا يتصوَّن من النجاسات، أو يمحق هيئات الصلاة، أو يتعاطى معيشة مذمومة، أو يعاشر أهل الفسوق ونحوهم، أو شبه ذلك، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا كراهة، والعتب على من كرهه".
وفي مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (٢٣/ ٣٧٣): "وسئل عن رجل يؤم قومًا وأكثرهم له كارهون؟ فأجاب: إن كانوا يكرهون هذا الإمام لأمر في دينه، مثل: كذبه، أو ظلمه، أو جهله، أو بدعته، ونحو ذلك، ويحبون الآخر لأنه أصلح في دينه منه، مثل: أن يكون أصدق، وأعلم، وأدين، فإنه يجب أن يولى عليهم هذا الإمام الذي يحبونه، وليس لذلك الإمام الذى يكرهونه أن يؤمهم؛ كما في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: رجل أم قومًا وهم له كارهون، ورجل لا يأتي الصلاة إلا دبارًا، ورجل اعتبد محررًا"، والله أعلم".