فيقال: أما أهل المدينة فهم داخلون في عموم الأدلة السابقة على التفصيل المذكور، لا سيما وحديث زيد بن ثابت وابن عمر فيه خطاب للصحابة الذين كانوا يصلون في المسجد النبوي، وحديث عبد الله بن سعد صريح في الباب، فإن قيل: حديث زيد بن ثابت عام في تفضيل صلاة الرجل في بيته على جميع المساجد؟ والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟.
فيقال: جاءت قرائن تخدش هذا العموم قد احتفت بهذا النص، أو انفصلت عنه:
فهذا النص أولًا: إنما خوطب به أهل المسجد النبوي، وثانيًا: كان ذلك في صلاة التراويح خاصة وليس في عموم الرواتب أو النوافل المطلقة، وثالثًا: الأمر بصلاة التراويح في البيوت كان مقترنًا بالخشية من أن تفرض عليهم هذه الصلاة في رمضان، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة"، ومن ثم فإنه لما زال هذا المانع جمع عمر بن الخطاب الصحابة عليها في المسجد النبوي، ورابعًا: جاء النص الدال على مزيد فضل الصلاة في المسجد الحرام على المسجد النبوي، وذلك فيما اتفق عليه الشيخان [البخاري (١١٩٠)، مسلم (١٣٩٤)] من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه؛ إلا المسجد الحرام"، وأخرج مثله مسلم من حديث ابن عمر (١٣٩٥)، وميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - (١٣٩٦)، وعليه فإن هذه القرائن تضعف القول بدخول المسجد الحرام في هذا العموم، بحيث تكون النافلة في البيت أفضل منها في المسجد الحرام، وخامسًا: صلاة المعتكف في مسجده خير من صلاته في بيته لأجل اعتكافه، فإن اقتران النافلة بالاعتكاف غير حكمها بدونه، وكذلك اقترانها بالمسجد الحرام، وسادسًا: شد الرحال إلى المساجد الثلاثة إذا قصرناه على تفضيل الفريضة فيها على الفريضة في مسجد حيه، كان ذلك أدعى لضعف الهمم عن تجشم مشاق السفر إلى المساجد الثلاثة؛ وذلك إذا كانت صلاته النافلة في بيته أفضل من صلاته في المسجد الحرام، ويقال مثل ذلك أيضًا فيمن شد الرحال للصلاة في المسجد النبوي والمسجد الأقصى، والله أعلم.
* * *
٢٠٦ - باب من صلى لغير القبلة ثم علِم
١٠٤٥ - . . . حماد، عن ثابت وحميد، عن أنس؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه كانوا يصلُّون نحو بيت المقدس، فلما نزلت هذه الآية:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}[البقرة: ١٤٤]، فمرَّ رجلٌ من بني سَلِمة، فناداهم وهم