بالراعف أنه يبني، قيل: الرعاف عندنا لا ينافي حكم الطهارة، والحدث ينافيها، ألا ترى أنه في غير الصلاة لو تعمد الرعاف لم تنتقض طهارته كما لو بدره، والحدث على الوجهين ينفي حكم الطهارة، ألا ترى أنكم لم تفرقوا بين عمد الحدث وسبقه في نقض الطهارة، وفرقتم بين تعمد المني والرعاف وغلبته في الصلاة، وفرقتم بين الأحداث في الصلاة، فقلتم: إذا غلبه المني اغتسل واستأنف، وإذا غلبه الحدث الأصغر بنى على صلاته، وفرقنا نحن بين الحدث وما ليس بحدث" [انظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (٣٢/ ٥٩)، فتح الباري لابن حجر (١٢/ ٣٢٩)].
وقال ابن حزم في المحلى (٤/ ١٥٣): "ولكنَّ البرهان على بطلان ما صلى؛ ... [فذكر الحديث ثم قال:] فإذ صحَّ أن الصلاة ممن أحدث لا يقبلها الله حتى يتوضأ، وقد صحَّ بلا خلاف وبالنص أن الصلاة لا تجزئ إلا متصلةً، ولا يجوز أن يُفرَّق بين أجزائها بما ليس صلاةً؛ فنحن نسأل من يرى البناء للمحدث فنقول: أخبرونا عن المحدث الذي أمرتموه بالبناء مُذْ يحدث؛ فيخرج فيمشي فيأخذ الماء فيغسل حدثه أو يستنجي فيتوضأ فينصرف، إلى أن يأخذ من عمل الصلاة، أهو عندكم في صلاةٍ، أم هو في غير صلاةٍ؟ ولا سبيل لهم إلى قسم ثالث؛ فإن قالوا: هو في صلاةٍ أكذبهم قولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ".
ومن المحال الباطل أن يُعْتَدَّ له بصلاة قد أيقنَّا أن الله تعالى لا يقبلها؛ فصحَّ أن عمل صلاته الذي كان قبل قد انقطع، وأما أجره فباقٍ له بلا شكٍّ؛ إلا أنه الآن في غير صلاةٍ بلا شكٍّ؛ إذ هو في حالٍ لا يقبل الله تعالى معها صلاةً، وإن قالوا: بل هو في غير صلاةٍ، قلنا: صدقتم، فإذ هو في غير صلاةٍ؛ فعليه أن يأتي بالصلاة متصلةً لا يحول بين أجزائها وهو ذاكرٌ قاصدًا بما ليس من الصلاة وبوقت هو فيه في صلاةٍ، وهذا برهان لا مخلص منه، ... ، إلى أن قال: وهو قول سفيان الثوري ومالك وابن شبرمة وآخر قولي الشافعي، وبه نأخذ".
قلت: وهو قول أحمد أيضًا، فقد قال في مسائل أبي داود (٢٦٤) لما سئل عن الرجل يحدث فيقدِّم رجلًا؟ قال: "يعجبني أن يعيد، قلت: من الدم؟ قال: الدم عندي أيسر من غيره، قيل: من الريح؟ قال: لا يبني، قلت لأحمد: أفأحبُّ إليك أن يستأنف الصلاة، ويستأنفون من الأحداث كلها؟ قال: نقض وضوءه فأحبُّ إليَّ أن يعيدوا" [وانظر أيضًا: مسائل الكوسج (٣٤٠ و ٣٤١)، وقال: "الذي أحدث يستقبل الصلاة"].
وقال في مسائل الكوسج (٨٩) لما سأله عن قول سفيان الثوري في مبطلات الصلاة، قال أحمد: "الأكلُ والشربُ والكلامُ: يستقبل، ويتوضأ من البول والريح والضحك، ويستقبل، والقيءُ والرعافُ والحِبْنُ السائل: يستقبل، وكلما أمرته بالوضوء أمرته يستقبل" [وانظر في معناه أيضًا: مسائل صالح (١٢٧٨)، وقال: "إذا أحدث وهو في الصلاة يستقبل الصلاة"].