للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قال: "توضؤوا مما غيرت النار" و"توضؤوا مما مست النار"، وذهب بعض من تكلم في تفسير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قوله - عليه السلام -: "توضؤوا مما مست النار" أنه عنى به غسل اليد؛ لأن الوضوء مأخوذ من الوضاءة، وهي النظافة، فكأنه قال: فنظفوا أيديكم من غمر ما مست النار، ومن دسم ما مست النار، وهذا لا معنى له عند أهل العلم، ولو كان كما ظن هذا القائل لكان دسم ما لم تمسه النار، وودك ما لم تمسه النار: لا يتنظف منه، ولا تغسل منه اليد، وهذا لا يصح عند ذي لب، وتأويله هذا يدل على ضعف نظره وقلة علمه بما جاء عن السلف في هذه المسألة والله أعلم.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "توضؤوا مما مست النار" أمر منه بالوضوء المعهود للصلاة من أكل طعامًا مسته النار، وذلك عند أكثر العلماء، وعند جماعة أئمة الفقهاء: منسوخ بأكله - صلى الله عليه وسلم - طعامًا مسته النار، وصلاته بعد ذلك دون أن يحدث وضوءًا، فاستدل العلماء بذلك على أن أمره بالوضوء مما مسته النار منسوخ.

وأشكل ذلك على طائفة كثيرة من أهل العلم بالمدينة والبصرة، ولم يقفوا على الناسخ في ذلك من المنسوخ، أو لم يعرفوا منه غير الوجه الواحد، فكانوا يوجبون الوضوء مما مست النار، ويتوضؤون من ذلك.

... [ثم ذكر ابن عبد البر جماعة منهم من الصحابة والتابعين ثم قال:] وكان ابن شهاب -رحمه الله- قد عرف الوجهين جميعًا في ذلك، وروى الحديثين المتعارضين في هذا الباب، وكان يذهب إلى أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "توضؤوا مما غيرت النار" ناسخ لفعله المذكور في حديث ابن عباس هذا ومثله.

وهذا مما غلط فيه الزهري مع سعة علمه، وقد ناظره أصحابه في ذلك، فقالوا: كيف يذهب الناسخ على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء الراشدون؟ فأجابهم بأن قال: أعيى الفقهاء أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منسوخه.

... [ثم ذكر ابن عبد البر جماعة ممن روي عنهم مثل ما جاء عن ابن شهاب؛ مثل أبي هريرة وعائشة، ثم قال:] ومما يستبين به أن الأمر بالوضوء مما غيرت النار منسوخ: أن عبد الله بن عباس شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل لحمًا وخبزًا وصلى ولم يتوضأ، ومعلوم أن حفظ ابن عباس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متأخر".

وقال في موضع آخر (٥/ ٦١): "بعمل الخلفاء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب: يوقف على الناسخ والمنسوخ؛ فافهم".

وقد ذكر ابن المنذر في الأوسط (١/ ٢١٣ - ٢٢٦) اختلاف الناس في هذا الباب وحجة أكل فريق إلى أن قال: "وقال بعضهم: والدليل على أن الرخصة هي الناسخة: اتفاق الخلفاء الراشدين المهديين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عثمان، وعلي بن أبي طالب صلوات الله عليهم: في ترك الوضوء، وقد ثبت أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، ولا يجوز أن يسقط عنهم جميعًا

<<  <  ج: ص:  >  >>