وَصَحَّحَ ذَلِكَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَابْنُ إِسْحَاقَ إذَا قَالَ: حَدَّثَنِي. فَحَدِيثُهُ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ إنَّمَا يُخَافُ عَلَيْهِ التَّدْلِيسُ إذَا عَنْعَنَ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَكِلَاهُمَا يُوَافِقُ حَدِيثَ طَاوُسٍ عَنْهُ، وَأَحْمَدُ كَانَ يُعَارِضُ حَدِيثَ طَاوُسٍ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَنَحْوَهُ.
وَكَانَ أَحْمَدُ يَرَى جَمْعَ الثَّلَاثِ جَائِزًا، ثُمَّ رَجَعَ أَحْمَدُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ تَدَبَّرْت الْقُرْآنَ فَوَجَدْت الطَّلَاقَ الَّذِي فِيهِ هُوَ الرَّجْعِيُّ. أَوْ كَمَا قَالَ. وَاسْتَقَرَّ مَذْهَبُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ، وَتَبَيَّنَ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ؛ لَا مَجْمُوعَةً، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ حَدِيثَانِ عَنْ النَّبِيِّ: أَنَّ مَنْ جَمَعَ ثَلَاثًا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا وَاحِدَةٌ.
وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ بَلْ الْقُرْآنُ يُوَافِقُ ذَلِكَ، وَالنَّهْيُ عِنْدَهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.
فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ الثَّابِتَةُ عَنْهُ تَقْتَضِي مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَعُدُولُهُ عَنْ الْقَوْلِ بِحَدِيثِ رُكَانَةَ وَغَيْرِهِ كَانَ أَوَّلًا لَمَّا عَارَضَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْ جَوَازِ جَمْعِ الثَّلَاثِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ؛ ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْمُعَارَضَةِ، وَتَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ هَذَا الْمُعَارِضِ. وَإِنْ جَمَعَ الثَّلَاثَ لَا يَجُوزُ: فَوَجَبَ عَلَى أَصْلِهِ الْعَمَلُ بِالنُّصُوصِ السَّالِمَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ، وَلَيْسَ يُعَلُّ حَدِيثُ طَاوُسٍ بِفُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلَافِهِ: وَهَذَا عَلِمَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: وَلَكِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ عُذْرَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْإِلْزَامِ بِالثَّلَاثِ. وَابْنُ عَبَّاسٍ عُذْرَهُ هُوَ الْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ لَمَّا تَتَابَعُوا فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ عَلَى ذَلِكَ فَعُوقِبُوا بِلُزُومِهِ، بِخِلَافِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُكْثِرِينَ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا أَكْثَرُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَاسْتَخَفُّوا بِحَدِّهَا كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ فِيهَا ثَمَانِينَ، وَيَنْفِي فِيهَا، وَيَحْلِقُ الرَّأْسَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَمَا قَاتَلَ عَلِيٌّ بَعْضَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ
وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هُوَ مِمَّا كَانُوا يُعَاقَبُونَ بِهِ أَحْيَانًا: إمَّا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَإِمَّا بِدُونِهِ. فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ، وَالْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ عُقُوبَةً لَهُ لِيَمْتَنِعَ عَنْ الطَّلَاقِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute