للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَمَّا بَيَانُ نَصِّ أَحْمَدَ فَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا جَوَّزَ الْمُؤَاجَرَةَ بِبَعْضِ الزَّرْعِ، اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ خَيْبَرَ، وَمُعَامَلَتُهُ لَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ مُزَارَعَةً، وَلَمْ تَكُنْ بِلَفْظٍ لَمْ يُنْقَلْ وَيَمْنَعْ فِعْلَهُ بِاللَّفْظِ الْمَشْهُورِ.

وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَارَطَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَدْفَعْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَذْرًا، فَإِذَا كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ الَّتِي فَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانُوا يَبْذُرُونَ فِيهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا أَحْمَدُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ، ثُمَّ يَقِيسَ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، ثُمَّ يَمْنَعُ الْأَصْلَ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ الَّتِي بَذَرَ فِيهَا الْعَامِلُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ، لِلْيَهُودِ: «نُقِرُّكُمْ فِيهَا مَا أَقَرَّكُمْ» ، لَمْ يَشْتَرِطْ مُدَّةً مَعْلُومَةً حَتَّى قَالَ: كَانَتْ إجَارَةً لَازِمَةً.

لَكِنَّ أَحْمَدَ حَيْثُ قَالَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ الْمِلْكِ، فَإِنَّمَا قَالَهُ مُتَابَعَةً لِمَنْ أَوْجَبَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَإِذَا أَفْتَى الْعَالِمُ بِقَوْلِ الْحُجَّةِ وَلَهَا مُعَارِضٌ رَاجِحٌ لَمْ يَسْتَحْضِرْهَا حِينَئِذٍ ذَلِكَ الْمُعَارِضُ الرَّاجِحُ، ثُمَّ لَمَّا أَفْتَى بِجَوَازِ الْمُؤَاجَرَةِ بِثُلُثِ الزَّرْعِ اسْتِدْلَالًا بِمُزَارَعَةِ خَيْبَرَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي خَيْبَرَ كَانَ الْبَذْرُ عِنْدَهُ مِنْ الْعَامِلِ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال، فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ أَحْمَدَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُؤَاجَرَةِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ وَبَيْنَ الْمُزَارَعَةِ بِبَذْرِ الْعَامِلِ، كَمَا فَرَّقَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَمُسْتَنَدُ هَذَا الْفَرْقِ لَيْسَ مَأْخَذًا شَرْعِيًّا، فَإِنَّ أَحْمَدَ لَا يَرَى اخْتِلَافَ أَحْكَامِ الْعُقُودِ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ، كَمَا يَرَاهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَيَمْنَعُونَهَا بِلَفْظِ الْمُزَارَعَةِ، وَكَذَلِكَ يُجَوِّزُونَ بَيْعَ مَا فِي الذِّمَّةِ بَيْعًا حَلَالًا بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَيَمْنَعُونَهُ بِلَفْظِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَلَمًا حَالًّا.

وَنُصُوصُ أَحْمَدَ وَأُصُولُهُ تَأْبَى هَذَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةِ مَبِيعِ الْعُقُودِ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ بِالْمَعَانِي لَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَلْفَاظِ، كَمَا يَشْهَدُ بِهِ أَجْوِبَتُهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَكُونُ هَذَا التَّفْرِيقُ رِوَايَةً عَنْهُ مَرْجُوحَةً، كَالرِّوَايَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ. أَمَّا الدَّلِيلُ: عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ: فَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>