الْكَلَامَ لَا يُؤْخَذُ بِعُمُومِ أَوَّلِهِ، بَلْ إنَّمَا تَضَمَّنَ طَهَارَةَ الْقُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ.
لَكِنَّ نُفَاةَ الْمَفْهُومِ يَقُولُونَ: لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا سِوَى ذَلِكَ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ فَنَحْنُ نَنْفِيه بِالْأَصْلِ، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ نَاقِلٌ عَنْ الْأَصْلِ. وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ، بَلْ نَنْفِيه بِدَلِيلِ هَذَا الْخِطَابِ الْمُوَافِقِ لِلْأَصْلِ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ: أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: وَصَّيْت بِهَذَا الْمَالِ لِلْعُلَمَاءِ يُعْطَوْنَ مِنْهُ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ. وَلَوْ قَالَ: مَرَّةً: وَصَّيْت بِهِ لِلْعُلَمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: أَعْطُوا مِنْ مَالِي لِلْعُلَمَاءِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ. فَهُنَا يُقَالُ تَعَارَضَ الْعُمُومُ وَالْمَفْهُومُ؛ لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْوَقْفِ، فَإِنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى صِفَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ لَمْ يُمْكِنْ تَغْيِيرُهَا؛ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ فَسَّرَ الْمُوصِي لَفْظَهُ بِمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ قُبِلَ مِنْهُ؛ بِخِلَافِ الْوَاقِفِ. وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ تَقْيِيدَ هَذَا الْكَلَامِ بِالصِّفَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ وَنُفَاتِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ بِوَصْفٍ فِي آخِرِهِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ مُتَكَلِّمَيْنِ لَا يَجِبُ اتِّحَادُ مَقْصُودِهِمَا: مِثْلُ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا أَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ لِزَيْدٍ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّ الْمَوْضِعَ الْفُلَانِيَّ مِنْهَا لِعَمْرٍو، فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْبَيِّنَتَيْنِ تَتَعَارَضَانِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَنَّهُ يَبْنِي الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ هُنَا. وَقَدْ غَلِطَ بَعْضُ النَّاسِ مَرَّةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَرَأَى أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، كَمَا غَلِطَ بَعْضُهُمْ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي فَأَلْحَقُوهُ بِالْأَوَّلِ.
وَمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ فَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهَا ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْفِطَرِ وَإِنَّمَا خَاصَّةُ الْعُلَمَاءِ إخْرَاجُ مَا فِي الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ، فَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ عَامٌّ أَوْ مُطْلَقٌ فَقَدْ وُصِلَ بِمَا يُقَيِّدُهُ وَيُخَصِّصُهُ، وَقَدْ أَطْبَقَ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا مَخْصُوصٌ مُقَيَّدٌ، وَلَيْسَ عَامًّا وَلَا مُطْلَقًا. فَفَرِّقْ - أَصْلَحَك اللَّهُ - بَيْنَ أَنْ يَتِمَّ الْكَلَامُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ فَيُسْكَتُ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعَارَضُ مَفْهُومٌ خَاصٌّ أَوْ مُقَيَّدٌ، وَبَيْنَ أَنْ يُوصَلَ بِمَا يُقَيِّدُهُ وَيُخَصِّصُهُ. أَلَسْت تَعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا؟ فَإِنَّهُ لَوْ حَلَفَ وَسَكَتَ سُكُوتًا طَوِيلًا، ثُمَّ وَصَلَهُ بِاسْتِئْنَاءٍ أَوْ عَطْفٍ أَوْ وَصْفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُؤَثِّرْ. فَلَوْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute