السَّابِقِينَ مُحْتَمَلٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَطْفُ بِحَرْفٍ مُرَتَّبٍ أَوْ مُشْتَرَكٍ غَيْرِ مُرَتَّبٍ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ دَلِيلُ مَنْ أَوْجَبَ قَصْرَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ.
فَإِنْ قَالَ: قَدْ ثَبَتَ الْعُمُومُ فِي الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِمُحْتَمَلٍ مُتَرَدِّدٍ - وَلَيْسَ غَرَضُنَا هُنَا إفْسَادُ هَذَا الدَّلِيلِ - بَلْ نَقُولُ مُوجَبُ هَذَا الدَّلِيلِ اخْتِصَاصُ التَّوَابِعِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ مُطْلَقًا. أَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ عَاطِفٍ وَعَاطِفٍ فَلَيْسَ فِي هَذَا الدَّلِيلِ مَا يَقْتَضِيه أَصْلًا. وَأَيُّ فَرْقٍ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، وَعَلَى الْمَسَاكِينِ؛ إلَّا أَنْ يَكُونُوا فُسَّاقًا؟ ، نَعَمْ، صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ رُبَّمَا قَوِيَ عِنْدَ اخْتِصَاصِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ الْآخِرَةِ، وَهَابَ مُخَالَفَةَ الشَّافِعِيِّ فَغَاظَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الرُّجْحَانِ، مَعَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَسْأَلَتَنَا لَيْسَتْ مِنْ مَوَارِدِ الْخِلَافِ؛ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ الصِّفَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ. فَأَمَّا الشَّرْطُ وَالصِّفَةُ الشَّرْطِيَّةُ فَلَا خِلَافَ فِيهِمَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ سَلَّمَ أَنَّ الْجُمَلَ الْمَعْطُوفَةَ بِالْوَاوِ يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى جَمِيعِهَا كَانَ ذِكْرُهُ لِهَذَا الدَّلِيلِ مُبْطِلًا لِمَا سَلَّمَهُ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْحُكْمِ مُسْتَلْزِمٌ تَسْلِيمَ بُطْلَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجَمِيعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: انْصِرَافُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الَّذِينَ يَلِيهِمْ الِاسْتِثْنَاءُ مَقْطُوعٌ بِهِ. فَمَمْنُوعٌ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَطْ، إذَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ.
وَيَجُوزُ لِلْمُتَكَلِّمِ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ وَيَقْصِدَهُ، وَإِنْ كَانَ حَالِفًا مَظْلُومًا؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: قَاتَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَدَعَاهُمْ وَأَبْغَضَهُمْ إلَّا أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدًا إلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَطْ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: ٢٨] وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الظَّاهِرِ عَائِدٌ إلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: ١] {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: ٢] ، إلَى قَوْلِهِ: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: ٤] وَلَيْسَ هَذَا مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيه؛ بَلْ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute