أَوَّلِهِ " ذِكْرُ بَيَانِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ فِيهِ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا، وَأَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلَامِ الْبَرِّيَّةِ، فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ عَذَابَهُ، وَتَوَاعَدَهُ حَيْثُ قَالَ: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ سَقَرَ لِمَنْ قَالَ {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: ٢٥] عَلِمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ.
وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَكَلَامُهُ فِي مِثْلِ هَذَا مَشْهُورٌ مُتَوَاتِرٌ، وَهُوَ الَّذِي اشْتَهَرَ بِمِحْنَةِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْقَوْلَ بِإِنْكَارِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَائِقِ أَسْمَائِهِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَدَعَوْا النَّاسَ إلَى ذَلِكَ، وَعَاقَبُوا لِمَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ إمَّا بِالْقَتْلِ، وَإِمَّا بِقَطْعِ الرِّزْقِ، وَإِمَّا بِالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَةِ، وَإِمَّا بِالْحَبْسِ أَوْ الضَّرْبِ، وَكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُمْ، فَثَبَّتَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِمَامَ أَحْمَدَ حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ بِهِ بَاطِلَهُمْ، وَنَصَرَ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَذَلَّهُمْ بَعْدَ الْعِزِّ، وَأَخْمَلَهُمْ بَعْدَ الشُّهْرَةِ، وَاشْتَهَرَ عِنْدَ خَوَاصِّ الْأُمَّةِ وَعَوَامِّهَا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ.
وَأَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى، فَهَذِهِ مُنَاقِضَةٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَهَذَا بِلَا رَيْبٍ يُسْتَتَابُ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فَإِنَّهُ أَنْكَرَ نَصَّ الْقُرْآنِ؛ وَبِذَلِكَ أَفْتَى الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَفُ فِي مِثْلِهِ؛ وَاَلَّذِي يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؛ هُوَ فِي الْمَعْنَى مُوَافِقٌ لَهُ فَلِذَلِكَ كَفَّرَهُ السَّلَفُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " خَلْقِ الْأَفْعَالِ " قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ مَنْ قَالَ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} [طه: ١٤] مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا تَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ إنَّهُ فِي الْأَرْضِ هَاهُنَا بَلْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute