الصِّفَاتِ، فَلَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَالصَّوْتُ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِكَلَامٍ.
الثَّانِي: أَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالْحَرَكَةِ عَادَ حُكْمُهُ إلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَلَا يَعُودُ حُكْمُهُ إلَى غَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ مُشْتَقَّ الْمَصْدَرِ مِنْهُ اسْمُ الْفَاعِلِ وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَقُّ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ، وَهُوَ مَا يُبَيِّنُ قَوْلَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ إنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ، لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ التَّكَلُّمِ عَائِدًا إلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا إلَى اللَّهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ وَكَّدَ تَكْلِيمَ مُوسَى بِالْمَصْدَرِ فَقَالَ: (تَكْلِيمًا) قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: التَّوْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ يَنْفِي الْمَجَازَ.
لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ أَرْسَلَ غَيْرَهُ، مِمَّنْ لَمْ يُكَلِّمْهُ، وَقَالَ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} [الشورى: ٥١] الْآيَةَ فَكَانَ تَكْلِيمُ مُوسَى مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَقَالَ: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: ١٤٤] وَقَالَ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: ١٦٣] إلَى قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: ١٦٤] ، وَالْوَحْيُ هُوَ مَا نَزَّلَهُ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَلَوْ كَانَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى إنَّمَا هُوَ صَوْتٌ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ لَكَانَ وَحْيُ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلَ مِنْهُ، لِأَنَّ أُولَئِكَ عَرَفُوا الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَمُوسَى إنَّمَا عَرَفَهُ بِوَاسِطَةٍ، وَلِهَذَا كَانَ غُلَاةُ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ يَدَّعُونَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْإِلْهَامِ أَفْضَلُ مِمَّا حَصَلَ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَمَّا فَهِمَ السَّلَفُ حَقِيقَةَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ الرُّسُلَ إنَّمَا بُعِثُوا لِيُبَلِّغُوا كَلَامَ اللَّهِ، بَلْ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا حَيَاةٌ هُوَ كَالْمَوَاتِ، بَلْ مَنْ لَا يَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ فَهُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ، إذْ ذَاتٌ لَا صِفَةَ لَهَا إنَّمَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ كَتَقْدِيرِ وُجُودٍ مُطْلَقٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute