للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَحِلِّينَ يَنْزِلُ مِنْهُمْ أَقْوَامٌ إلَى جَنْبِ جَبَلٍ، فَيُوَاعِدُهُمْ رَجُلٌ إلَى الْغَدِ فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيْلًا وَيَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، كَمَا ذُكِرَ الضَّمِيرُ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد حَيْثُ قَالَ: «يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» وَكَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، حَيْثُ قَالَ: «يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ الْأَرْضَ وَيَمْسَخُ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» - وَالْخَسْفُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - التَّبْيِيتُ الْمَذْكُورُ فِي الْآخِرِ. فَإِنَّ التَّبْيِيتَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالْبَأْسِ فِي اللَّيْلِ كَتَبْيِيتِ الْعَدُوِّ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف: ٩٧] وَهَذَا نَصٌّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا هَذِهِ الْمَحَارِمَ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ فِيهَا، حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الشَّرَابَ الَّذِي شَرِبُوهُ لَيْسَ هُوَ الْخَمْرَ، وَإِنَّمَا لَهُ اسْمٌ آخَرُ إمَّا النَّبِيذُ أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا الْخَمْرُ عَصِيرُ الْعِنَبِ النِّيءُ خَاصَّةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ تَأْوِيلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْكُوفِيِّينَ مَعَ فَضْلِ بَعْضِهِمْ وَعِلْمِهِ وَدِينِهِ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ:

دَعْ الْخَمْرَ يَشْرَبْهَا الْغُوَاةُ ... فَإِنَّنِي رَأَيْتُ أَخَاهَا قَائِمًا فِي مَكَانِهَا

فَإِنْ لَا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ ... أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا

وَلَقَدْ صَدَقَ فِيمَا قَالَ، فَإِنَّ النَّبِيذَ إنْ لَمْ يُسَمَّ خَمْرًا فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْخَمْرِ فِي الْمَعْنَى، فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ يُسَمَّى خَمْرًا.

وَإِنَّمَا أَتَى هَؤُلَاءِ حَيْثُ اسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَاتِ بِمَا ظَنُّوهُ مِنْ انْتِفَاءِ الِاسْمِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى وُجُودِ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمِ وَثُبُوتِهِ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ شُبْهَةُ الْيَهُودِ فِي اسْتِحْلَالِ بَيْعِ الشَّحْمِ بَعْدَ تَجْمِيلِهِ، وَاسْتِحْلَالِ أَخْذِ الْحِيتَانِ يَوْمَ الْأَحَدِ بِمَا أَوْقَعُوهَا بِهِ يَوْمَ السَّبْتِ فِي الشِّبَاكِ وَالْحَفَائِرِ مِنْ فِعْلِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، حَيْثُ قَالُوا: لَيْسَ هَذَا بِصَيْدٍ وَلَا عَمَلٍ فِي يَوْمِ السَّبْتِ. وَلَيْسَ هَذَا بِاسْتِبَاحَةِ الشَّحْمِ. بَلْ الَّذِي يَسْتَحِلُّ الشَّرَابَ الْمُسْكِرَ زَاعِمًا أَنَّهُ لَيْسَ خَمْرًا، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْخَمْرِ، وَمَقْصُودَهُ مَقْصُودُ الْخَمْرِ أَفْسَدُ تَأْوِيلًا، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ شَرَابٍ أَسْكَرَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ قِيَاسًا، فَلَأَنْ كَانَ مِنْ الْقِيَاسِ مَا هُوَ حَقٌّ، فَإِنَّ قِيَاسَ الْخَمْرِ الْمَنْبُوذَةِ عَلَى الْخَمْرِ الْمَعْصُورَةِ مِنْ الْقِيَاسِ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ الْمُسَمَّى بِانْتِفَاءِ الْفَارِقِ، وَهُوَ مِنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ الَّذِي لَا يُسْتَرَابُ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>