للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَتَبَيَّنَ أَنَّ اعْتِبَارَ الشَّارِعِ لِلْمَقَاصِدِ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ صِحَّةَ نِكَاحِ الْهَازِلِ وَفَسَادَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ.

وَإِيضَاحُ هَذَا: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أَنْ تُتَّخَذَ آيَاتُهُ هُزُوًا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ النِّكَاحَ وَالْخُلْعَ وَالطَّلَاقَ، وَفَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَنْ يُلْعَبَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيُسْتَهْزَأَ بِآيَاتِهِ فَيُقَالُ: طَلَّقْتُكِ، رَاجَعْتُكِ، خَلَعْتُكِ، رَاجَعْتُكِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالْكَلَامِ الْحَقِّ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يُقَالَ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، إمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ مَقْصُودٌ غَيْرُ حَقِيقَةٍ كَكَلَامِ الْمُنَافِقِ، أَوْ لَا يُقْصَدَ إلَّا مُجَرَّدُ ذِكْرِهِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ، كَكَلَامِ السُّفَهَاءِ، وَكَلَامُ الْوَجْهَيْنِ حَرَامٌ وَهُوَ كَذِبٌ وَلَعِبٌ، فَيَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ. فَيُمْنَعُ الْأَوَّلُ مِنْ حُصُولِ مَقْصُودِهِ الْمُبَايِنِ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ، وَيَمْنَعُ الثَّانِي مِنْ حُصُولِ مَقْصُودِهِ الَّذِي هُوَ اللَّعِبُ.

ثُمَّ إنْ كَانَ مَنْعُهُ مِنْ مَقْصُودِهِ بِإِبْطَالِ الْعَقْدِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، أَوْ مِنْ بَعْضِهَا، أَوْ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ شُرِعَ ذَلِكَ، وَالْمُحَلِّلُ إنَّمَا يُمْنَعُ الْمَقْصُودَ الْبَاطِلَ بِإِبْطَالِ الْعَقْدِ مُطْلَقًا، وَإِلَّا فَتَصْحِيحُ النِّكَاحِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ، وَلَمَّا لَحَظَ بَعْضُ أَهْلِ الرَّأْيِ هَذَا رَأَى أَنْ يُصَحِّحَ النِّكَاحَ وَيَمْنَعَ حُصُولَ الْحِلِّ، كَمَا يُوقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ وَيُوجَبُ الْمِيرَاثُ.

لَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ هُنَا، لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْعَنَ إلَّا الْمُحَلَّلُ لَهُ فَقَطْ، إذَا كَانَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ صَحِيحًا مُفِيدًا لِلْحِلِّ لِنَفْسِهِ. وَلَكَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى تَيْسًا مُسْتَعَارًا؛ لِأَنَّهُ زَوْجٌ مِنْ الْأَزْوَاجِ، غَيْرَ أَنَّ نِكَاحَهُ لَمْ يُفِدْ الْحِلَّ الْمُطْلَقَ كَالنِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ إنَّ مَادَّةَ الْفَسَادِ إنَّمَا تَنْحَسِمُ بِتَحْرِيمِ الْعَقْدَيْنِ مَعًا، وَالطَّلَاقُ لَا يَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ.

وَلِهَذَا إذَا وَقَعَ مَعَ التَّحْرِيمِ وَقَعَ كَطَلَاقِ الْبِدْعَةِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ مَعَ التَّحْرِيمِ كَانَ فَاسِدًا كَالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ، فَلَمَّا مَنَعَ الشَّارِعُ مَقْصُودَ الْمُحَلِّلِ مَنَعَ أَيْضًا مَقْصُودَ الْهَازِلِ وَهُوَ اللَّعِبُ بِالْعُقُودِ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءٍ لِأَحْكَامِهَا فَأَوْجَبَ أَحْكَامَهَا مَعَهَا، وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ إذَا تَأَمَّلَهُ اللَّبِيبُ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ وَجَدَ الشَّرِيعَةَ مُتَنَاسِبَةً، وَأَنَّ تَصْحِيحَ نِكَاحِ الْهَازِلِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ.

وَكَذَلِكَ نِكَاحُ التَّلْجِئَةِ إذَا قِيلَ بِصِحَّتِهِ، فَإِنَّ التَّلْجِئَةَ نَوْعٌ مِنْ الْحِيَلِ بِإِظْهَارِ صُورَةِ الْعَقْدِ لِسُمْعَةٍ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ مُوجَبَهَا بِإِبْطَالِ هَذِهِ الْحِيَلِ، بِأَنْ يَلْتَزِمُوا مُوجَبَهُ حَتَّى لَا يَجْتَرِئَ أَحَدٌ أَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>