للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَعْقِدَ الْعَقْدَ إلَّا عَلَى وَجْهٍ لِرَغْبَةٍ فِي مَقْصُودِهَا دُونَ الِاحْتِيَالِ بِهَا إلَى غَيْرِ مَقَاصِدِهَا.

وَمِمَّا يُقَارِبُ هَذَا أَنَّ كَلِمَتَيْ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ إذَا قَصَدَ الْإِنْسَانُ بِهِمَا غَيْرَ حَقِيقَتِهِمَا صَحَّ كُفْرُهُ وَلَمْ يَصِحَّ إيمَانُهُ. فَإِنَّ الْمُنَافِقَ قَصَدَ بِالْإِيمَانِ مَصَالِحَ دُنْيَاهُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ لِمَقْصُودِ الْكَلِمَةِ فَلَمْ يَصِحَّ إيمَانُهُ، وَالرَّجُلُ لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِمَصَالِحِ دُنْيَاهُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةِ اعْتِقَادٍ صَحَّ كُفْرُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ مُعْتَقِدًا لِحَقِيقَتِهَا، وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوْ الْكَذِبِ جَادًّا وَلَا هَازِلًا، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ أَوْ الْكَذِبِ جَادًّا، أَوْ هَازِلًا كَانَ كَافِرًا، أَوْ كَاذِبًا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ بِهَذَا الْكَلِمَاتِ غَيْرُ مُبَاحٍ، فَيَكُونُ وَصْفُ الْهَزْلِ مُهْدَرًا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ فَتَبْقَى الْكَلِمَةُ مُوجِبَةً لِمُقْتَضَاهَا.

وَنَظِيرُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَصْدَ اللَّفْظِ بِالْعُقُودِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ، بِحَيْثُ لَوْ جَرَى اللَّفْظُ فِي حَالِ نَوْمٍ، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ سَبْقِ اللِّسَانِ بِغَيْرِ مَا أَرَادَهُ الْقَلْبُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، ثُمَّ إنَّ أَكْثَرَهُمْ صَحَّحُوا عُقُودَ السَّكْرَانِ مَعَ عَدَمِ قَصْدِهِ اللَّفْظَ قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَ عَقْلَهُ كَانَ فِي حُكْمِ مَنْ بَقِيَ عَقْلُهُ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْهَازِلِ وَالْمُخَادِعِ لَمَّا أَخْرَجَا الْعَقْدَ عَنْ حَقِيقَتِهِ. فَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُمَا مِنْهُ مَقْصُودَ الشَّارِعِ عُوقِبَا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمَا. وَمَقْصُودُ الْهَازِلِ نَفْيُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فَيَثْبُتُ. وَمَقْصُودُ الْمُحَلِّلِ ثُبُوتُ الْحِلِّ لِلْمُطَلِّقِ، وَثُبُوتُ الْحِلِّ لَهُ لِيَكُونَ وَسِيلَةً فَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ بِعَكْسِ السُّنَّةِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَصَحَّحَ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ دُونَ نِكَاحِ الْهَازِلِ، نَظَرًا إلَى أَنَّ الْهَازِلَ لَمْ يَقْصِدْ مُوجَبَ الْعَقْدِ، فَصَارَ كَلَامُهُ لَغْوًا وَالْمُحَلِّلُ قَصَدَ مُوجَبَهُ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى غَرَضٍ آخَرَ.

وَهَذَا مُخَيَّلٌ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ، لَكِنْ يَصُدُّ عَنْ اعْتِبَارِهِ مُخَالَفَتُهُ لِلسُّنَّةِ، وَبَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ يَتَبَيَّنُ فَسَادُهُ نَظَرًا كَمَا تَبَيَّنَ أَثَرًا، فَإِنَّ التَّكَلُّمَ بِالْعَقْدِ مَعَ عَدَمِ قَصْدِهِ مُحَرَّمٌ، فَإِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فَقَدْ أُعِينَ عَلَى التَّحْرِيمِ الْمُحَرَّمِ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ إفْسَادٌ لِهَذَا الْهَزْلِ الْمُحَرَّمِ وَإِبْطَالُ اللَّعِبِ يَجْعَلُ الْهَزْلَ بِآيَاتِ اللَّهِ جِدًّا، كَمَا جُعِلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِاَللَّهِ وَبِآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ، وَقَصْدُ الْمُحَلِّلِ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِقَصْدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>