للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنْ عَادَتْ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، ثُمَّ إنَّ الْمُرْتَدَّةَ يَجِبُ قَتْلُهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، إذَا لَمْ تَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ تُضْرَبُ وَتُحْبَسُ، وَلَا تُقْتَلُ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إذَا ارْتَدَّتْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ وَلَا تُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ الِامْتِنَاعِ، ثُمَّ إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَمْرُ وَلَا الْإِذْنُ فِي التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ، بَلْ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا فَيَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، ثُمَّ إنَّ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَشَدُّ، فَإِنَّ لَهُمْ مِنْ الْكَلِمَاتِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي يَرَوْنَ أَنَّهَا كُفْرٌ مَا هُوَ دُونَ الْأَمْرِ بِالْكُفْرِ، حَتَّى إنَّ الْكَافِرَ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسْلِمَ، فَقَالَ: اصْبِرْ سَاعَةً فَقَدْ كَفَّرُوهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ سَاعَةً، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ غَيْرُ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ بِإِنْشَاءِ الرِّدَّةِ الَّتِي هِيَ أَغْلَظُ مِنْ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ.

فَعَلِمْت أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِنْتَ أَبِي رَوْحٍ بِالِارْتِدَادِ لَمْ يَكُونُوا مُقْتَدِينَ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لِكَوْنِهَا لَا تُقْتَلُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَنْفُذُ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ أَيْضًا وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ إذَا لَمْ تَظْهَرْ الْحِيلَةُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَشَدِّ الْمَذَاهِبِ تَغْلِيظًا لِمِثْلِ هَذَا وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ الْمَذَاهِبِ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْكُفْرِ.

وَلَكِنْ لَمَّا رَأَى بَعْضُ الْفَسَقَةِ أَنَّهَا إذَا ارْتَدَّتْ حَصَلَ غَرَضُهَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ دَلَّهَا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الدَّلَالَةُ مِنْ الْمَذْهَبِ، كَمَا أَنَّ الْفَاجِرَ قَدْ يَأْمُرُ الشَّخْصَ بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ، أَوْ شَهَادَةِ زُورٍ لِيَحْصُلَ بِهَا غَرَضُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَالْحَاكِمُ مَعْذُورٌ بِإِنْفَاذِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ لَا يَسْتَجِيزُهُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ.

وَهَذَا لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ قَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ فِي الْفُرُوعِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الْأُصُولِ مَعَ بَرَاءَةِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أُولَئِكَ الْأَتْبَاعِ، وَهَذَا مَشْهُورٌ فَكَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَدْ انْتَسَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَغَيْرِهِمْ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفُرُوعِ مَعَ أَنَّهُ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا مِنْ أَبْرَإِ النَّاسِ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ، حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَعَنَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ هُوَ فَتَحَ عَلَى النَّاسِ الْكَلَامَ فِي هَذَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>