للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِ أَكْثَرِهَا الْكَرَاهَةُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اتِّفَاقَهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْلِيلِ الْمُتَوَاطَإِ عَلَيْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ غَايَةَ مَا يَبْلُغُك مِنْ الْكَلِمَاتِ الشَّدِيدَةِ فِي بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّ أَصْلَ ذَلِكَ قَاعِدَةُ الْحِيَلِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ دَائِمًا تُنْكِرُهَا لَا سِيَّمَا قُلُوبَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْوِلَايَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَيَجِدُونَ يَنْبُوعَهَا مِنْ بَعْضِ الْمُفْتِينَ، فَيَتَكَلَّمُونَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ مَنْشَأُ هَذِهِ الْحِيَلِ مِنْ الْيَهُودِ صَارَ الْغَاوِي مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ مُتَشَبِّهًا بِهِمْ، وَصَارَ أَهْلُ الْحِيَلِ تَعْلُوهُمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ لِمُشَارَكَتِهِمْ الْيَهُودَ فِي بَعْضِ أَخْلَاقِهِمْ، ثُمَّ قَدْ اسْتِطَارَ شَرُّ هَذِهِ الْحِيَلِ حَتَّى دَخَلَتْ فِي أَكْثَرِ أَبْوَابِ الدِّينِ وَصَارَتْ مَعْرُوفَةً، وَرَدُّهَا مُنْكَرًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ أُمُورَ الْإِسْلَامِ وَأُصُولَهُ، وَكُلَّمَا رَقَّ دِينُ بَعْضِ النَّاسِ وَاسْتَخَفَّ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الْحُكَّامِ وَالشَّرْطِيِّينَ وَالْمُفْتِي أَحْدَثَ حِيلَةً بَعْدَ حِيلَةٍ وَأَكْثَرُهَا مِمَّا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِهَا، مِثْلُ تَلْقِينِ الشُّرَطِيِّ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُمَلِّكَ ابْنَهُ أَوْ غَيْرَهُ أَنْ يُقِرَّ بِذَلِكَ إقْرَارًا، أَوْ يَجْعَلَهُ بَيْعًا، وَيُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِنَقْضِ الثَّمَنِ.

وَهَذَا حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ كَذِبٌ يَضُرُّ الْوَرَثَةَ، وَمَقْصُودُهُمْ أَنْ لَا يُمْكِنَ فَسْخُهُمْ بِمَا تُفْسَخُ بِهِ الْهِبَاتُ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَكْتُبُ عِنْدَهُ كَتَبَ بَعْضَهَا أَنَّهُ مِلْكٌ لِابْنِهِ، وَبَعْضَهَا أَنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ، وَيُخْرِجُ كُلَّ كِتَابٍ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ، وَحَتَّى إنَّ بَعْضَ مَنْ يَتَوَرَّعُ مِنْ الشُّهُودِ يَحْسَبُ أَنْ لَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا يُعْلَمُ تَحْرِيمُهُ مِنْ عَقْدٍ أَوْ إقْرَارٍ، أَوْ حُكْمٍ حَرَامٌ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ» . وَمِثْلُ مَا أَحْدَثَ بَعْضُ الْحُكَّامِ الدَّعْوَى الْمَرْمُوزَةَ الْمُسَخَّرَةَ.

وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهَا بَعْضُ قُضَاةِ الشَّامِ قَبْلَ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ وَبَعْدَ الْخَامِسَةِ، فَصَارُوا يَقُولُونَ حَكَمَ بِكَذَا، وَثَبَتَ عِنْدَهُ كَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ خَصْمَيْنِ مُدَّعٍ، وَمُدَّعًى عَلَيْهِ جَازَ حُضُورُهُمَا، وَاسْتِمَاعُ الدَّعْوَى مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مَعَ الْقَطْعِ وَالْعِلْمِ الْيَقِينِ بِأَنَّ الْحَاضِرَيْنِ لَمْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ، فَإِنَّ الْخَصْمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ إذَا سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ، بَلْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْحَقُّ وَذَاكَ الْحَاضِرُ لَوْ لَمْ يُجَبْ لَادَّعَى عَلَى آخَرَ، وَآخَرَ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مُطَالَبَتَهُ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ وَاحِدٌ يَقُولُ بِلِسَانِهِ لَا حَقَّ لَك

<<  <  ج: ص:  >  >>