للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ تَلَقَّوْهَا عَنْ الْمَشْرِقِيِّينَ، نَعَمْ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُجْرِي الْعُقُودَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ بِهَا مِنْ غَيْرِ سُؤَالِ الْمُعَاقِدِ عَنْ مَقْصُودِهِ. كَمَا يُجْرِي أَمْرَ مَنْ ظَهَرَتْ زَنْدَقَتُهُ، ثُمَّ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ عَلَى ظَاهِرِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ عَلَى بَاطِنِهِ. وَكَمَا يُجْرِي كِنَايَاتِ الْقَذْفِ وَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُ إنَّهُ مَقْصُودُهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَرُبَّمَا أُخِذَ مِنْ كَلَامِهِ عَدَمُ تَأْثِيرِ الْعَقْدِ فِي الظَّاهِرِ بِمَا يَسْبِقُهُ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ وَعَدَمِ فَسَادِهِ بِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ النِّيَّاتِ عَلَى خِلَافِهِ عَنْهُ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، أَمَّا إنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَوْ مَنْ هُوَ دُونَهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَبِشَيْءٍ يُتَيَقَّنُ بِأَنَّ بَاطِنَهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَى هَذَا عَنْ مِثْلِ هَؤُلَاءِ. فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي كُتُبِهِمْ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ قَاعِدَتِهِمْ. فَرُبَّ قَاعِدَةٍ لَوْ عَلِمَ صَاحِبُهَا مَا تُفْضِي إلَيْهِ لَمْ يَقُلْهَا.

فَمِنْ رِعَايَةِ حَقِّ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يُحْكَى هَذَا عَنْهُمْ - وَلَوْ رُوِيَ عَنْهُمْ - لِفَرْطِ قُبْحِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَكْرَهُ أَنْ يَحْكِيَ عَنْ الْكُوفِيِّينَ وَالْمَدَنِيِّينَ وَالْمَكِّيِّينَ الْمَسَائِلَ الْمُسْتَقْبَحَةَ. مِثْلَ مَسْأَلَةِ النَّبِيذِ. وَالصَّرْفِ. وَالْمُتْعَةِ. وَفَحَّاشِ النِّسَاءِ. إذَا حُكِيَتْ لِمَنْ يَخَافُ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ فِيهَا. أَوْ يَنْتَقِصَهُمْ بِسَبَبِهَا، وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ آمُرَ بِشَيْءٍ. أَوْ أَفْعَلَهُ، وَبَيْنَ أَنْ أَقْبَلَ مِنْ غَيْرِي ظَاهِرَهُ.

وَقَدْ كَانَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يُحْكَى عَنْهُ الْإِفْتَاءُ بِالْحِيَلِ. مِثْلُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ سَأَلْت أَبَا بَكْرٍ الْآجُرِّيَّ - وَأَنَا وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ فِي مَكَّةَ - عَنْ هَذَا الْخُلْعِ الَّذِي يُفْتَى بِهِ النَّاسُ - وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ رَجُلٌ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، فَيُقَالَ لَهُ: اخْلَعْ زَوْجَتَك، وَافْعَلْ مَا حَلَفْت عَلَيْهِ، ثُمَّ رَاجِعْهَا -، وَالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا.

وَقُلْت: إنَّ قَوْمًا يُفْتُونَ الرَّجُلَ الَّذِي يَحْلِفُ بِأَيْمَانِ الْبَيْعِ وَيَحْنَثُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَرَ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِيَمِينِ الْبَيْعَةِ شَيْئًا. فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَعْجَبُ سُؤَالِي عَنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. ثُمَّ قَالَ لِي: اعْلَمْ مُنْذُ كَتَبْت الْعِلْمَ وَجَلَسْت لِلْكَلَامِ فِيهِ، وَالْفَتْوَى مَا أَفْتَيْت فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحَرْفٍ وَلَقَدْ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيَّ الضَّرِيرَ عَنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، كَمَا سَأَلْتنِي عَنْ التَّعَجُّبِ مِمَّنْ يُقْدِمُ عَلَى الْفَتْوَى فِيهِمَا. فَأَجَابَنِي بِجَوَابٍ كَتَبْته عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ فَأَخْرَجَ لِي كِتَابَ أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ وَالنُّشُوزِ مِنْ كِتَابِ الشَّافِعِيِّ، وَإِذَا مَكْتُوبٌ عَلَى ظَهْرِهِ بِخَطِّ أَبِي بَكْرٍ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيَّ فَقُلْت

<<  <  ج: ص:  >  >>