للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلْنَا: لَا نُنْكِرُ أَنَّ عَوَاقِبَ الْأَفْعَالِ تَكُونُ تَابِعَةً مَتْبُوعَةً مِنْ وَجْهَيْنِ، وَلَكِنَّ إدْخَالَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ غَلَطٌ مُنْكَرٌ، فَإِنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ نَبَّهْنَا عَلَيْهِمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ إنَّمَا أُرِيدَ لِأَجْلِ الْآخَرِ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُرَادٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَادًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ الْآخَرُ مُرَادًا لِأَجْلِهِ فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَادًا فَيَصِيرُ عَبَثًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إرَادَةِ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ ضِدَّيْنِ فَلَا يَكُونُ إرَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْجُودَةً فَيَصِيرُ الْفِعْلُ أَيْضًا عَبَثًا.

بَيَانُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ:

أَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا، أَوْ أَمَرَ بِشَيْءٍ لِأَجْلِ شَيْءٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَقْصُودًا لَهُ بِحَيْثُ يُرِيدُ وُجُودَهُ لِمَصْلَحَةٍ تَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ وَلَا يُرِيدُ عَدَمَهُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ طَرِيقًا إلَى حُصُولِهِ أَرَادَهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حُصُولُهُ إلَّا بِتِلْكَ الطَّرِيقِ جَعَلَهَا مَقْصُودَةً لِأَجْلِهِ فَإِذَا كَانَ قَدْ أَعْدَمَ الشَّيْءَ وَأَزَالَهُ لَمْ يَجْعَلْ إلَى وُجُودِهِ طَرِيقًا مَحْضًا بِحَيْثُ تَكُونُ مُفْضِيَةً إلَيْهِ يُمْكِنُ الْقَاصِدَ لِوُجُودِهِ سُلُوكُهَا بَلْ عَلَّقَ وُجُودَهُ بِوُجُودِ أَمْرٍ آخَرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةٌ وَمَقْصُودُهُ غَيْرُ وُجُودِ ذَلِكَ الْمُعَلَّقِ بِهِ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِوُجُودِ الشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ فِي نَفْسِهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، بَلْ يَكُونُ قَاصِدًا لَهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي كَمَا كَانَ فِي الْأَوَّلِ قَاصِدًا لِلْوَسِيلَةِ، فَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْغَايَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ لِلْأَوَّلِ دُونَ الْوَسِيلَةِ، وَفِي الثَّانِي لَيْسَتْ الْغَايَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ عَدَمُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ عَدَمُهَا إلَى أَنْ تُوجَدَ الْوَسِيلَةُ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لَنَصَبَ لَهَا طَرِيقًا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهَا تُفْضِي إلَيْهَا غَالِبًا.

إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ: الشَّارِعُ لَمَّا حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، ثُمَّ يُفَارِقَهَا، لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الْحِلِّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْصِبْ شَيْئًا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا حَيْثُ عَلَّقَ وُجُودَ الْحِلِّ بِأَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، ثُمَّ يُفَارِقَهَا؛ وَهَذِهِ الْغَايَةُ الَّتِي هِيَ النِّكَاحُ يُوجَدُ الطَّلَاقُ مَعَهَا تَارَةً، وَتَارَاتٍ كَثِيرَةً لَا يُوجَدُ وَهِيَ نَفْسُهَا تُوجَدُ تَارَةً وَتَارَاتٍ لَا تُوجَدُ فَيُعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ نَفَى الْحِلَّ إمَّا عُقُوبَةً عَلَى الطَّلَاقِ، أَوْ امْتِحَانًا لِلْعِبَادِ، أَوْ لِمَا شَاءَ سُبْحَانَهُ، وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ وُجُودَهُ إذَا أَرَادَهُ الْمُكَلَّفُ نَصَبَ لَهُ شَيْئًا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ وُجُودَ الْمِلْكِ إذَا أَرَادَهُ الْمُكَلَّفُ نَصَبَ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ وُجُودَ الْمِلْكِ إذَا أَرَادَهُ الْمُكَلَّفُ نَصَبَ لَهُ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ مِنْ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>