أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ حِلَّ الْبُضْعِ لَمَّا أَرَادَهُ الْعَبْدُ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ الْبَائِنَتَيْنِ، أَوْ بِدُونِ الطَّلَاقِ جَعَلَ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ وَهُوَ تَنَاكُحُ الزَّوْجَيْنِ فَإِنَّهُمَا إذَا أَرَادَا ذَلِكَ فَعَلَاهُ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: ٢٣٠] ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: ٢٢٢] ، {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: ٤٣] .
فَإِنَّهُ لَمَّا قَصَدَ وُجُودَ الْحِلِّ لِلْعَبْدِ إذَا أَرَادَهُ عَلَّقَهُ بِالتَّطَهُّرِ الَّذِي يَتَيَسَّرُ غَالِبًا وَجَعَلَ التَّطَهُّرَ طَرِيقًا مُوصِلًا إلَى حُصُولِ الْحِلِّ بِحَيْثُ يُفْعَلُ لِأَجْلِهِ فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَقْصِدُ وُجُودَهُ لَكِنْ بِشَرْطِ وُجُودِ غَيْرِهِ وَبَيْنَ مَا يَقْصِدُ عَدَمَهُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُوجَدَ غَيْرُهُ.
فَالْأَوَّلُ كَرَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ يُكْرِمَ غَيْرَهُ لَكِنْ لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ إلَّا إذَا ابْتَدَأَهُ بِذَلِكَ. وَالثَّانِي كَرَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ لَا يُكْرِمَ رَجُلًا لَكِنْ أَكْرَمَهُ فَاضْطُرَّ إلَى مُكَافَأَتِهِ فَالْأَوَّلُ يَكُونُ مَصْلَحَةً لَكِنَّ وُجُودَهَا إنَّمَا يَتِمُّ بِأَسْبَابٍ مُتَقَدِّمَةٍ، وَالثَّانِي يَكُونُ مَفْسَدَةً لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابٍ تَصِيرُ مَصْلَحَةً فَمِنْ الْأَوَّلِ يُتَلَقَّى فِقْهُ أَسْبَابِ الْحُكْمِ وَشُرُوطِهِ فَإِنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ وَمُكَمِّلَةٌ لِمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ وَمِنْ الثَّانِي يُتَلَقَّى حُكْمُ الْمَوَانِعِ وَالْمُعَارَضَاتِ الَّتِي يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا.
وَمِثَالُ الْأَوَّلِ أَسْبَابُ حِلِّ الْمَالِ وَالْوَطْءِ وَاللَّحْمِ فَإِنَّ الْمَالَ وَالْبُضْعَ وَاللَّحْمَ حَرَامٌ حَتَّى تُوجَدَ هَذِهِ الْأَسْبَابُ وَهِيَ مَقْصُودَةُ الْوُجُودِ، لِأَنَّهَا مِنْ مَصْلَحَةِ الْخَلْقِ.
وَمِثَالُ الثَّانِي أَسْبَابُ حِلِّ الْعُقُوبَاتِ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجَلْدِ وَالْقَطْعِ فَإِنَّ الدِّمَاءَ وَالْمُبَاشَرَةَ حَرَامٌ حَتَّى تُوجَدَ الْجِنَايَاتُ وَهِيَ مَقْصُودَةُ الْعَدَمِ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ عَدَمُهَا.
وَمِنْ الثَّانِي تَحْرِيمُ الْخَبَائِثِ حَتَّى تُوجَدَ الضَّرُورَةُ وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ اقْتِطَاعًا مِنْ حِلِّ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ أُمُورٌ تَقْتَضِي عَدَمَهَا إلَّا إذَا عَارَضَهَا مَا هُوَ أَقْوَى فِي اقْتِضَاءِ الْوُجُودِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْصِدُ حِلَّ الْعُقُوبَاتِ وَحِلَّ الْمَيْتَةِ وَوَطْءِ الْأَمَةِ بِالنِّكَاحِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: أَنَا أُقِيمُ بِمَكَانٍ لَا طَعَامَ فِيهِ لِتُبَاحَ لِي الْمَيْتَةُ، أَوْ أُخْرِجُ مَالِي وَأَتَنَاوَلُ مَا يُثِيرُ شَهْوَتِي لِيَحِلَّ لِي نِكَاحُ الْإِمَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَ عَاصِيًا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَوْ قَالَ: أَنَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute