وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُرِيدَ الرَّجُلُ أَنْ يُنْشِئَ عَقْدَ بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيُؤْمَرُ بِإِقْرَارٍ وَلَا يُبَيَّنُ لَهُ حُكْمُ الْإِقْرَارِ فَيُقِرُّ إقْرَارًا يُلْزَمُ بِمُوجَبِهِ وَيَكُونُ مُوجَبُهُ مُخَالِفًا لِمَقْصُودِهِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. أَوْ يَأْمُرُهُ بِتَسْمِيَةٍ كَثِيرَةٍ عَلَى الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ يُصَادِقُ عَلَى نِصْفِهِ بِدِينَارٍ وَنَحْوِهِ وَلَا يُبَيِّنُ لَهُ مَا يَلْزَمُهُ بِهَذَا مِنْ وُجُوبِ رَدِّ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ إذَا فُسِخَ الْبَيْعُ بِعَيْبٍ وَنَحْوِهِ فَأَيْنَ هَذَا الْغُرُورُ وَالتَّدْلِيسُ مِنْ مُجَرَّدِ السُّكُوتِ عَنْ بَيَانِ حَالِ السِّلْعَةِ؟
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّصْرِيَةِ وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ وَرَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّصْرِيَةَ مُجَرَّدُ فِعْلٍ يَغْتَرُّ بِهِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ قَدْ حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْجَبَ الْخِيَارَ عِنْدَ ظُهُورِ الْحَالِ فَكَيْفَ بِالْغُرُورِ بِالْأَقْوَالِ؟ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْحِيَلِ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ هُنَا زَعَمُوا لَيْسَ لِوُجُودِ عَيْبٍ، وَلَا لِفَوَاتِ صِفَةٍ وَهُوَ جَارٍ عَلَى قِيَاسِ الْمُحْتَالِينَ، لَكِنَّ الْحِيَلَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الصِّفَاتِ بِالْأَفْعَالِ كَإِظْهَارِهَا بِالْأَقْوَالِ. بَلْ مُجَرَّدُ ظُهُورِهَا كَمُجَرَّدِ ظُهُورِ السَّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُحْتَالِينَ أَنَّهُ كَانَ إذَا اسْتَوْصَفَ السِّلْعَةَ عَرَّضَ فِي كَلَامِهِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُ كَيْفَ الْجَمَلُ يَقُولُ احْمِلْ مَا شِئْت وَيَنْوِي عَلَى الْحِيَلِ وَيُقَالُ لَهُ كَمْ تَحْلُبُ فَيَقُولُ فِي أَيِّ إنَاءٍ شِئْتَ فَيَقُولُ كَيْفَ سَيْرُهُ فَيَقُولُ الرِّيحُ لَا تَلْحَقُ فَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ فَلَا يَجِدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ رَجَعَ إلَيْهِ فَيَقُولُ مَا وَجَدْتُ فِيمَا بِعْتنِي شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ فَيَقُولُ مَا كَذَبْتُكَ، وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَأَدْخَلَهَا فِي كَلَامِهِ مَنْ احْتَجَّ لِلْحِيَلِ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهَا كَذِبٌ أَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْمِزَاحَ مَعَهُ لَا حَقِيقَةَ الْبَيْعِ، وَإِلَّا فَمَنْ عَمِلَ مِثْلَ هَذَا فَقَدْ قُدِحَ فِي دِيَانَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ فِي الْغَرَرِ مِنْ التَّصْرِيَةِ.
فَإِنَّ الْقَوْلَ الْمُفْهِمَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ ظُهُورِ حَالٍ لَمْ يَصِفْهَا وَلَا يَلِيقُ مِثْلُ هَذَا بِذِي مُرُوءَةٍ فَضْلًا عَنْ ذِي دِيَانَةٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ النَّجْشِ» وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ لِلْمُشْتَرِي وَخَدِيعَتِهِ، «وَنَهَى عَنْ تَلَقِّي السِّلَعِ» وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْرِيرِ الْبَائِعِ أَوْ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي، وَنَهَى أَنْ يَسُومَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، أَوْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، أَوْ يَخْطُبَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute