فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مُعَامَلَةٍ كَانَ مَقْصُودُ صَاحِبِهَا أَنْ يُقْرِضَ قَرْضًا بِرِبْحٍ وَاحْتَالَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ اشْتَرَى مِنْ الْمُقْتَرِضِ سِلْعَةً بِمِائَةٍ حَالَّةٍ ثُمَّ بَاعَهُ إيَّاهَا بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ إلَى أَجَلٍ، أَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ ابْتَاعَهَا بِمِائَةٍ حَالَّةٍ، أَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسِينَ، وَأَقْرَضَهُ مَعَ ذَلِكَ خَمْسِينَ، أَوْ وَاطَأَ مُخَادِعًا ثَالِثًا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ سِلْعَةً بِمِائَةٍ ثُمَّ يَبِيعَهَا الْمُشْتَرِي لِلْمُقْتَرِضِ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ يَعُودَ الْمُشْتَرِي الْمُقْتَرِضُ فَيَبِيعَهَا لِلْأَوَّلِ بِمِائَةٍ إلَّا دِرْهَمَيْنِ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْعُقُودَ يُقَالُ فِيهَا مَا قَالَهُ النَّبِيُّ: «أَفَلَا أَفْرَدْت أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ عَنْ الْآخَرِ ثُمَّ نَظَرْت» هَلْ كُنْت مُبْتَاعَهَا أَوْ بَايَعَهُ بِهَذَا الثَّمَنِ أَمْ لَا فَإِذَا كُنْت إنَّمَا نَقَصْتَ هَذَا وَزِدْت هَذَا لِأَجْلِ هَذَا كَانَ لَهُ قِسْطٌ مِنْ الْعِوَضِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ رِبًا، وَكَذَلِكَ الْحِيَلُ الْمُبْطِلَةُ لِلشُّفْعَةِ وَالْمُسْقِطَةُ لِلْمِيرَاثِ وَالْمُحَلِّلُ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ وَنَحْوُهُمَا.
وَفِيمَا يُشْبِهُ هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ» وَهُمَا الرَّجُلَانِ يَقْصِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَارَاةَ الْآخَرِ وَمُبَاهَاتَهُ فِي التَّبَرُّعَاتِ وَالتَّعْوِيضَاتِ كَالرَّجُلَيْنِ يَصْنَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَعْوَةً يَفْتَخِرُ بِهَا عَلَى الْآخَرِ، أَوْ يُرَخِّصُ فِي بَيْعِ السِّلْعَةِ لِيَضُرَّ الْآخَرَ لِيَمْنَعَ النَّاسَ عَنْ الشِّرَاءِ مِنْهُ، وَلِهَذَا كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الشِّرَاءَ مِنْ الطَّبَّاخَيْنِ وَنَحْوِهِمَا يَتَبَارَيَانِ فِي الْبَيْعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِطْعَامَ وَالْبَيْعَ حَلَالٌ. لَكِنْ لَمَّا قَصَدَ بِهِ إضْرَارَ الْغَيْرِ صَارَ الضَّرَرُ كَالْمَشْرُوطِ فِيهِ الْمُعَارَضِ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يُبَدِّلْ الْمَالَ إلَّا لِضَرَرٍ بِالْغَيْرِ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ صَارَ ذَلِكَ الْمَالُ حَرَامًا.
وَمَنْ تَأَمَّلَ حَدِيثَ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ وَحَدِيثَ أَنَسٍ وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهَا عَلِمَ ضَرُورَةً أَنَّ السُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ التَّابِعِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّبَرُّعَاتِ مِنْ الْهِبَاتِ وَالْمُحَابَيَاتِ وَنَحْوِهِمَا إذَا كَانَتْ بِسَبَبِ قَرْضٍ أَوْ وِلَايَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا كَانَ الْقَرْضُ بِسَبَبِ الْمُحَابَاةِ فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ عِوَضًا فِي ذَلِكَ الْقَرْضِ، وَالْوِلَايَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ.
وَهَذَا يَجْتَثُّ قَاعِدَةَ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ وَالرَّشَوِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى حِيَلِ السِّفَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ، فَإِذَا كَانَ إنَّمَا يَفْعَلُ الشَّيْءَ لِأَجْلِ كَذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْطُوقِ الظَّاهِرِ، فَإِذَا كَانَ حَلَالًا كَانَ حَلَالًا وَإِلَّا فَهُوَ حَرَامٌ، وَهَذَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَبَاحَ تَعَاطِيَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute