نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ إبْطَالِ الْحِيَلِ، وَالْكَلَامُ فِي التَّفَاصِيلِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَرُبَّمَا جَاءَ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُبَاحَةِ كَمَا قِيلَ لِشُرَيْحٍ إنَّك قَدْ أَحْدَثْت فِي الْقَضَاءِ. قَالَ: أَحْدَثُوا فَأَحْدَثْنَا، وَهَذَا الْقَدْرُ أُنْمُوذَجٌ مِنْهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَالْكَلَامُ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ بَابٌ وَاسِعٌ يَحْتَمِلُ كِتَابًا كَبِيرًا يُبَيَّنُ فِيهِ أَنْوَاعُهَا وَأَدِلَّةُ كُلِّ نَوْعٍ وَيَسْتَوْفِي مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُنَا الْأَوَّلُ هُنَا إلَّا التَّنْبِيهَ عَلَى إبْطَالِهَا بِإِشَارَةٍ تُمَهِّدُ الْقَاعِدَةَ لِمَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» .
فَإِنَّ هَذَا النَّهْيَ يَعُمُّ مَا قَبْلَ الْحُلُولِ وَبَعْدَهُ وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّاعُونِ: «وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» فَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ الْفِرَارِ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إذَا نَزَلَ بِالْعَبْدِ رِضَاءً بِقَضَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَسْلِيمًا لِحُكْمِهِ فَكَيْفَ بِالْفِرَارِ مِنْ أَمْرِهِ وَدِينِهِ إذَا نَزَلَ بِالْعَبْدِ؟ ، وَبِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ مَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ. فَعُلِمَ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ نَفْسُهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ إذَا قُصِدَ بِهِ أَمْرٌ مُحَرَّمٌ صَارَ مُحَرَّمًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ عَلَى إبْطَالِ الْحِيَلِ لَعْنُهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ عُمُومًا، كَمَا أَنَّ إبْطَالَ الْحِيَلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمْ نَذْكُرْهُ هَاهُنَا فِي أَدِلَّةِ الْحِيَلِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِبُطْلَانِ الْحِيَلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ بِغَيْرِ أَدِلَّةِ التَّحْلِيلِ الْخَاصَّةِ.
فَلَوْ اسْتَدْلَلْنَا هُنَا عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ بِمَا دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ. ثُمَّ اسْتَدْلَلْنَا بِبُطْلَانِ الْحِيَلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ لَكَانَ تَطْوِيلًا وَتَكْرِيرًا وَحَشْوًا - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: ٤٤] فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute