{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: ٤] فَهِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الزَّانِيَ وَالْقَاذِفَ إذَا كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَجُزْ ضَرْبُهُ إلَّا مُفَرَّقًا.
وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ ضُرِبَ بِعُثْكُولِ النَّخْلِ وَنَحْوِهِ. وَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْبُرْءِ فَهَلْ يُؤَخَّرُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَوْ يُقَامُ. عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ. فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ الْحَالِفَ لَيَضْرِبَنَّ يَكُونُ مُوجَبُ يَمِينِهِ الضَّرْبَ الْمَجْمُوعَ مَعَ صِحَّةِ الْمَضْرُوبِ وَجِلْدِهِ؟ هَذَا خِلَافُ الْقَاعِدَةِ، فَعَلِمَ أَنَّ قِصَّةَ أَيُّوبَ كَانَ فِيهَا مَعْنًى يُوجِبُ جَوَازَ الْجَمْعِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مُوجَبُ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْمُخْتَصَرَ؛ لِأَنَّ عُمْدَةَ الْمُحْتَالِينَ مَا تَأَوَّلُوا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَا يَخْفَى فَسَادُ تَأْوِيلِهِمْ لِمَنْ تَأَمَّلَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ «جَاءَ بِلَالٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ بَرْنِيِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَالَ بِلَالٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ فَبِعْت مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذَلِكَ - أَوَّهَ عَيْنُ الرِّبَا. لَا تَفْعَلْ وَلَكِنْ إذَا أَرَدْت أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بَيْعَ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَأَتَاهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ لَهُ أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: إنَّا لَنَأْخُذَ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ. وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ. فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «بِعْهُ بِسِلْعَةٍ ثُمَّ ابْتَعْ بِسِلْعَتِك أَيَّ التَّمْرِ شِئْت» فَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ التَّمْرَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ يَبْتَاعَ بِالدَّرَاهِمِ تَمْرًا أَقَلَّ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ أَطْيَبُ وَإِنْ كَانَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا لَا يَجُوزُ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الْحِيلَةِ.
قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا مِنْ الْحِيلَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي شَيْءٍ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْحِيَلِ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسَ عَشَرَ الَّذِي فِيهِ أَقْسَامُ الْحِيَلِ، وَبَيَانُ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بِعْ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِبَيْعٍ مُطْلَقٍ وَشِرَاءٍ مُطْلَقٍ، وَالْبَيْعُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْبَيْعُ الْبَتَاتُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مُشَارَطَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute