الِاجْتِهَادِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ هَذَا الِاجْتِهَادِ الْمُعَيَّنِ وَيَظْهَرُ هَذَا عَلَى دِقَّتِهِ بِمِثَالٍ مَشْهُودٍ وَهُوَ صَلَاةُ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى طَهَارَةٍ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الصَّلَاةُ لَيْسَتْ مَأْمُورًا بِهَا، وَلَكِنْ هُوَ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا وَلَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ وَهَذَا أَصَحُّ.
وَلَوْ أَدَّى مَا أُمِرَ بِهِ كَمَا أَمَرَهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقَضَاءِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ إذَا اعْتَقَدْت أَنَّك عَلَى طَهَارَةٍ فَصَلِّ. وَإِنَّمَا قَالَ {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: ٦] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» ، وَقَالَ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ» . وَلَكِنْ لَمْ يُكَلِّفْهُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى طَهَارَةٍ. فَإِنَّ هَذَا يَشُقُّ بَلْ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى طَهَارَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْهَاهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ. فَإِنْ اسْتَمَرَّ بِهِ هَذَا الْخَطَأُ غَفَرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ لَكِنْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَهَّدْ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ بَلْ قَصَدَ فِعْلَهُ وَفِعْلَ مَا اعْتَقَدَهُ مُجْزِيًا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدُونِ مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ وَاسْتَمَرَّ بِهِ النِّسْيَانُ، وَمَنْ اعْتَقَدَ فِيمَا يَفْعَلُهُ أَنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ نَقُلْ: إنَّهُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهِ لَكِنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ نَقُولُ لَمْ يُنْهَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِهِ أَيْ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ بِمِثْلِ الْأَمْرِ بِفِعْلِ هَذَا الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ التَّعْيِينَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْفِعْلِ الْمُمَثَّلِ بِهِ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا. بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهَا.
وَالْأَمْرُ إنَّمَا وَقَعَ بِحَقِيقَةٍ مُطْلَقَةٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ دَرَاهِمُ فَوَفَّاهُ مَا يَعْتَقِدُ جَيِّدَةً فَظَهَرَتْ رَدِيئَةً. فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ نَقْدٌ مُطْلَقٌ وَكَوْنُهُ هَذَا النَّقْدَ أَوْ هَذَا النَّقْدَ تَعْيِينَاتٌ، يَتَأَدَّى بِهَا الْوَاجِبُ لَا أَنَّ نَفْسَ ذَلِكَ التَّعْيِينِ وَاجِبٌ فَالْوَاجِبُ تَأْدِيَةُ ذَلِكَ الْمُطْلَقِ، وَالتَّعْيِينَاتُ غَيْرُ مُنْهًى عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، فَإِذَا قَضَاهُ دَرَاهِمَ فَعَلَ فِيهَا الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ الْمُطْلَقُ، وَاقْتَرَنَ بِهِ تَعْيِينٌ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ فَلَا يَضُرُّهُ، كَذَلِكَ الْمُصَلِّي أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِطَهَارَةٍ، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ الْمُعَيَّنَةُ لَمْ يُؤْمَرْ بِعَيْنِهَا، بَلْ لَمْ يُنْهَ عَنْ عَيْنِهَا وَفِي عَيْنِهَا الْمُطْلَقُ الْمَأْمُورُ بِهِ. فَاقْتَرَنَ مَا أُمِرَ بِهِ بِمَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ، وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى طَهَارَةٍ فَالشَّارِعُ لَا يَنْهَاهُ عَنْ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرْضَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ لَا أَنَّهُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَدَّاهَا بِطَهَارَةٍ غَيْرِ هَذِهِ جَازَ، فَإِذَا أَدَّاهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُعَيَّنَ لَمْ يَتَضَمَّنْ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلَا تَضَمَّنَ أَيْضًا الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، فَتَدَبَّرْ هَذَا الْمَقَامَ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَجُولُ فِي الشَّرِيعَةِ وَغَيْرِهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْهُ بَلَغَتْ بِهِ الشُّبُهَاتُ الْكَلَامِيَّةُ الَّتِي لَمْ يَصْحَبْهَا نُورُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute