لِلْمُجْتَهِدِ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ. وَغَايَةُ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الْإِلْزَامُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَأْمُورٌ فِي الْبَاطِنِ بِمَا لَا يُطِيقُهُ، وَهَذَا سَهْلٌ هُنَا. فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ إنَّهُ لَا يَأْمُرُ اللَّهُ الْعَبْدَ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ إذَا شَاءَهُ وَأَمَّا أَمْرُهُ بِمَا لَا يَشَاءَهُ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَهَذَا حَقٌّ، وَإِذَا كَانَ أَمَرَهُ بِمَا مَشِيئَتُهُ مُعَلَّقَةٌ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهِ. فَكَذَلِكَ يَأْمُرُهُ بِمَا مَعْرِفَتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِسَبَبٍ مِنْ غَيْرِهِ، إذْ الْعِلْمُ وَاقِعٌ فِي الْقَلْبِ قَبْلَ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ مَا يُعْذَرُ فِيهَا الْمُخْطِئُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُعْذَرُ، وَهَذَا فَصْلٌ مُعْتَرِضٌ اقْتَضَاهُ الْكَلَامُ لِتَعَلُّقِ أَبْوَابِ الْخَطَإِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ فَهَذَا الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَنْكِحُ مَفْعُولُهُ عَمَّا فَعَلَهُ مِنْ وَطْءٍ وَانْتِفَاعٍ، وَهَذَا الْوَطْءُ وَالِانْتِفَاعُ عَفْوٌ فِي حَقِّهِ، لَا حَلَالٌ حِلًّا شَرْعِيًّا وَلَا حَرَامٌ تَحْرِيمًا شَرْعِيًّا، وَهَكَذَا كُلُّ مُخْطِئٍ، وَلَكِنْ هُوَ فِي عَدَمِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُبَاحِ الشَّرْعِيِّ، وَإِنْ كَانَ يَخْتَلِفُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَيَخْتَلِفَانِ أَيْضًا فِي أَنَّ رَفْعَ أَحَدِهِمَا نَسْخٌ لَهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسْخُ وَرَفْعُ الْآخَرِ ابْتِدَاءً تَحْرِيمٌ أَوْ إيجَابٌ ثَبَتَ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمُبْتَدَأَةُ، وَأَنْ يَضْمَنَ رَفْعَ الِاسْتِصْحَابِ الْعَقْلِيِّ، وَهَذَا حَرَّمْنَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْيَاءَ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ. كَمَا عَهِدَهُ إلَيْنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ هَذَا نَسْخًا لِقَوْلِهِ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: ١٤٥] الْآيَةَ إذْ هَذِهِ نَفَتْ تَحْرِيمَ مَا سِوَى الْمُسْتَثْنَى وَلَمْ تُثْبِتْ حِلَّ مَا سِوَى الْمُسْتَثْنَى، وَبَيْنَ نَفْيِ التَّحْرِيمِ وَإِثْبَاتِ الْحِلِّ مَرْتَبَةُ الْعَفْوِ وَرَفْعُ الْعَفْوِ لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَلِهَذَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: ٥] وَالْمَائِدَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْأَنْعَامِ بِسِنِينَ، فَلَوْ كَانَتْ آيَةُ الْأَنْعَامِ تَضَمَّنَتْ مَا سِوَى الْمُسْتَثْنَى مَا قَيَّدَ الْحِلَّ بِقَوْلِهِ {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: ٥] .
وَمَنْ فَهِمَ هَذَا اسْتَرَاحَ مِنْ اضْطِرَابِ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، مِثْلُ كَوْنِ آيَةِ الْأَنْعَامِ وَارِدَةً عَلَى سَبَبٍ فَتَكُونُ مُخْتَصَّةً بِهِ أَوْ مُعَرَّضَةً لِلتَّخْصِيصِ، وَمِثْلُ كَوْنِهَا مَنْسُوخَةً نَسْخًا شَرْعِيًّا بِالْأَحَادِيثِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ أَوْ الصَّحِيحِ مُطْلَقًا، وَلَقَدْ نَزَلَ هُنَا مُسْتَدِلًّا وَمُسْتَشْكِلًا، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا. وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى غَيْرِ مَحَلٍّ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَنْكِحُ بَاطِلًا بَاطِنًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute