هَذَا، وَلَوْ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ لِابْنِهِ اذْهَبْ فَانْكِحْ فَصَارَ مُحَلِّلًا لَعَدَّهُ أَهْلُ الْعُرْفِ غَيْرَ مُمْتَثِلٍ لِأَمْرِ أَبِيهِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى مَا دُونَ هَذَا نِكَاحًا بِالتَّقْيِيدِ، مِثْلَ أَنْ يُقَالَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ كَمَا يُقَالُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَبَيْعُ الْخِنْزِيرِ وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ اللَّفْظِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مَعَ التَّقْيِيدِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ قَالَ {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: ٢٣٠] ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ كُلَّ مَا يُسَمَّى نِكَاحًا مَعَ الْإِطْلَاقِ أَوْ التَّقْيِيدِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ نِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي عُرْفِ الْمُسْلِمِينَ.
يُقَوِّي هَذَا: أَنَّ التَّحْرِيمَ قَبْلَ هَذَا النِّكَاحِ ثَابِتٌ بِلَا رَيْبٍ، وَنِكَاحُ الرَّغْبَةِ رَافِعٌ لِهَذَا التَّحْرِيمِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ فَلَمْ نَعْلَمْهُ مُرَادًا مِنْ هَذَا الْخِطَابِ وَلَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَيَبْقَى التَّحْرِيمُ ثَابِتًا حَتَّى يَقُولَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ نِكَاحٌ مُبَاحٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَذْكُرَ نَصًّا يُحِلُّ هَذَا النِّكَاحَ، وَلَمْ يَثْبُتْ دُخُولُهُ فِي اسْمِ النِّكَاحِ الْمُطْلَقِ، وَلَا يُمْكِنُ حِلُّهُ بِالْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حِلِّ نِكَاحِ الرَّغْبَةِ حِلُّ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، كَمَا لَا يَخْفَى فَإِنَّ الرَّاغِبَ مُرِيدٌ لِلنِّكَاحِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُبَاحَ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُحَلِّلُ فَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي النِّكَاحِ، وَلَا إرَادَةٌ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُبَاحَ لَهُ مَا لَا رَغْبَةَ لَهُ فِيهِ، إذْ الْإِرَادَةُ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ الشَّيْءِ لِلْمُحْتَاجِ إلَيْهِ، أَوْ لِمَنْ هُوَ فِي مَظِنَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ إبَاحَتُهُ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا إرَادَةَ لَهُ، وَلَا قَصْدَ فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ رَاغِبٌ عَنْهُ زَاهِدٌ فِيهِ، لَوْلَا تَطْلِيقُ ذَلِكَ الْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ وَإِعَادَتُهَا إلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي أَنْ يَنْكِحَ، وَحِلُّ الْمَرْأَةِ لِلْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ حَتَّى يَقُولَ هَذِهِ حَاجَةٌ لِلنَّاكِحِ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هُنَا لِلْمُطَلِّقِ، وَذَلِكَ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِ هَذَا، ثُمَّ إنَّ تِلْكَ الْحَاجَةَ لَا تَحْصُلُ بِالنِّكَاحِ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِرَفْعِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي النِّكَاحِ وَلَا فِيمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ زَائِلٍ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ نِكَاحٌ زَائِلٌ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِمَّا يُقْصَدُ بِعَقْدِهِ الِانْتِفَاعُ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا مَنْفَعَتُهُ مَنُوطَةٌ بِوُجُودِهِ فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إلَّا أَنْ يُزِيلَهُ لِمَنْفَعَةِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ عَاقِدًا لِشَيْءٍ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ، فَلَا يَصِحُّ إلْحَاقُهُ بِمَنْ يَعْقِدُ النِّكَاحَ لِمَقَاصِدِهِ أَوْ بَعْضِهَا.
يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ مَا هُوَ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ لَا يُبَاحُ مِنْهُ إلَّا مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ، كَذَبْحِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ قَبْلَ الْقَتْلِ مُحَرَّمٌ وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِثْلُهُ لِمَنْفَعَةِ الْأَكْلِ وَنَحْوِهَا، فَإِذَا قُتِلَ لَا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ كَانَ ذَلِكَ الْقَتْلُ مُحَرَّمًا، وَكَذَلِكَ الْإِبْضَاعُ حَرَامٌ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute