للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ حَيْثُ يَكُونُ آخَرُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ، فَيَكُونُ حَيْثُ لَا مَوْجُودَ غَيْرُهُ، أَوْ حَيْثُ لَا قَائِمَ بِنَفْسِهِ غَيْرُهُ، وَهُوَ الْمَعْنَى بِكَوْنِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَفَوْقَ الْعَالَمِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْقُولُ مِنْ الْجِهَةِ الْعَدَمِيَّةِ فَأَكْثَرُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوس وَالصَّابِئِينَ، عَلَى أَنَّ نَفْيَ هَذَا عَنْ الْمَوْجُودِ وَاجِبُهُ وَمُمْكِنُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ حَيْثُ يَكُونُ مَوْجُودًا آخَرَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ إلَّا حَيْثُ لَا يَكُونُ مَوْجُودٌ آخَرُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، فَيَكُونُ فِي الْجِهَةِ الْعَدَمِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحَايِثًا لَهُ دَاخِلًا فِيهِ، فَيَكُونُ فِي الْجِهَةِ الْوُجُودِيَّةِ، وَوُجُودُ مَوْجُودٍ لَا فِي جِهَةٍ وُجُودِيَّةٍ وَلَا جِهَةٍ عَدَمِيَّةٍ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُمْ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مُوَافِقٌ لِمَا عَلَيْهِ بَنُو آدَمَ مِنْ الْفِطْرَةِ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا.

وَبِالْجُمْلَةِ فَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ نَفْيُ ذَلِكَ بِالْهَيِّنِ حَتَّى يَدَّعِيَ دَعْوًى مُجَرَّدَةً بِلَا دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ وَلَا عَقْلِيٍّ ثُمَّ يُوجِبُ اعْتِقَادَ ذَلِكَ وَيُعَاقِبُ تَارِكَهُ.

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ يَعْنِي بِالْجِهَةِ مَا لَيْسَ مُغَايِرًا لِذِي الْجِهَةِ، فَيَكُونُ كَوْنُهُ فِي جِهَةٍ بِحَيْثُ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ أَوْ يُشَارُ إلَيْهِ، وَلَا يَعْنِي الْجِهَةَ مَوْجُودًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَلَا يَعْنِي عَدَمِيًّا وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ الْجِهَةُ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ، فَكَوْنُ الشَّيْءِ فِي الْجِهَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لِغَيْرِهِ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ مُبَايِنٌ لِغَيْرِهِ.

وَقَدْ يَقُولُونَ كَوْنُهُ فِي الْجِهَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ بِذَاتِهِ مُحَقَّقُ الْوُجُودِ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ مَوْجُودٌ سِوَاهُ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هُوَ فِي الْجِهَةِ قَبْلَ وُجُودِ الْعَالَمِ، وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ لَا تُعْقَلُ الْجِهَةُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْعَالَمِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ مُسَمَّى الْجِهَةِ نَوْعَانِ إضَافِيٌّ مُنْتَقِلٌ وَثَابِتٌ لَازِمٌ.

فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَهِيَ الْجِهَاتُ السِّتُّ لِلْحَيَوَانِ، أَمَامَهُ وَهُوَ مَا يَؤُمُّهُ، وَخَلْفَهُ وَهُوَ مَا يَخْلُفُهُ وَيَمِينَهُ، وَيَسَارَهُ وَفَوْقَهُ، وَتَحْتَهُ وَهُوَ مَا يُحَاذِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْجِهَاتُ لَيْسَتْ جِهَاتٍ لِمَعْنًى يَقُومُ بِهَا، وَلَا ذَلِكَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهَا، بَلْ تَصِيرُ الْيَمِينُ يَسَارًا وَالْيَسَارُ يَمِينًا وَالْعُلُوُّ سُفْلًا وَالسُّفْلُ عُلُوًّا، يَتَحَرَّكُ الْحَيَوَانُ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فِي الْجِهَاتِ، وَأَمَّا الثَّانِي، فَهُوَ جِهَتَا الْعَالَمِ وَهِيَ الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ، فَلَيْسَ لِلْعَالَمِ إلَّا جِهَتَانِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>