إحْدَاهُمَا الْعُلُوُّ وَهُوَ جِهَةُ السَّمَاوَاتِ وَمَا فَوْقَهَا، وَجِهَةُ السُّفْلِ وَهُوَ جِهَةُ الْأَرْضِ وَمَا تَحْتَهَا وَفِي جَوْفِهَا، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَكُلُّ مَا كَانَ خَارِجَ الْعَالَمِ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ فَهُوَ فَوْقَهُ وَهُوَ فِي الْجِهَةِ الْعُلْيَا، فَالْبَارِي تَعَالَى إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، أَوْ لَا يَكُونُ مُبَايِنًا لَهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، كَانَ خَارِجًا عَنْهُ عَالِيًا عَلَيْهِ بِالْجِهَةِ الْعُلْيَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، كَانَ حَالًّا فِي الْعَالَمِ قَائِمًا بِهِ مَحْمُولًا فِيهِ.
قَالَ هَؤُلَاءِ: وَهَذَا كُلُّهُ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ، فَالْبَارِي قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْعَالَمَ كَانَ هُوَ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي ذَاتِهِ، فَيَكُونُ هُوَ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا جَعَلَ ذَاتَه فِيهِ، فَيَكُونُ مُفْتَقِرًا مَحْمُولًا قَائِمًا بِالْمَصْنُوعَاتِ، بَلْ خَلْقُهُ بَائِنًا عَنْهُ فَيَكُونُ فَوْقَهُ وَهُوَ جِهَةُ الْعُلُوِّ، وَقَدْ بَسَطْنَا كَلَامَ هَؤُلَاءِ وَخُصُومِهِمْ فِي الْحُكُومَةِ الْعَادِلَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الرَّازِيّ فِي تَأْسِيسِهِ مِنْ الْمُجَادَلَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالدَّاعِي لِلنَّاسِ إلَى اعْتِقَادِ نَفْيِ الْجِهَةِ إمَّا أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ وَيَكْشِفَ هَذِهِ الْحَقَائِقَ، وَإِمَّا أَنْ يُعْرِضَ عَنْ هَذَا وَيَقِفَ عِنْدَ الْجُمَلِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ. فَإِمَّا أَنْ يَدْعُوَ إلَى قَوْلٍ لَا يُبَيِّنُ حَقِيقَتَهُ وَأَقْسَامَهُ، وَلَا يُبَيِّنُ حُجَّتَهُ الَّتِي تُصَحِّحُ مَرَامَهُ، وَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ مَوْجُودًا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ، وَكَلَامِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا غَايَةٌ مَا يَكُونُ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالظُّلْمِ فِي الْكَلَامِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ قَوْلَهُمْ يَنْفِي التَّحَيُّزَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ، فَإِنَّ التَّحَيُّزَ الْمَعْرُوفَ فِي اللُّغَةِ، هُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ بِحَيْثُ يَحُوزُهُ وَيُحِيطُ بِهِ مَوْجُودٌ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: ١٦] فَإِنَّ التَّحَيُّزَ مَأْخُوذٌ مِنْ حَازَهُ يَحُوزُهُ، فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا بِقَوْلِنَا: إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا تُحِيطُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ وَلَا يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَوْجُودَاتِ، فَهَذَا مَذْكُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِي، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَحْدِيدِهِ.
وَأَمَّا التَّحَيُّزُ الَّذِي يَعْنِيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ فَأَعَمُّ مِنْ هَذَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ الْعَالَمُ كُلُّهُ مُتَحَيِّزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ آخَرَ مَوْجُودٍ، إذْ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ الْعَالَمِ وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ، فَيَقُولُونَ الْحَيِّزُ: تَقْدِيرُ الْمَكَانِ، وَكُلُّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ مُبَايِنٌ لِغَيْرِهِ بِالْجِهَةِ فَإِنَّهُ مُتَحَيِّزٌ عِنْدَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute