مِنْهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ مَوْلُودٌ، وَأَنَّ لَهُ أَبًا وَطِئَ أُمَّهُ، وَأُمًّا وَلَدَتْهُ وَهُوَ لَمْ يُحِسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ حَوَاسِّهِ الْخَمْسِ، بَلْ أُخْبِرَ بِذَلِكَ وَوَجَدَ فِي قَلْبِهِ مَيْلًا إلَى مَا أُخْبِرَ بِهِ، وَكَذَلِكَ عِلْمُهُ بِسَائِرِ أَقَارِبِهِ مِنْ الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ وَالْأَجْدَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي بَنِي آدَمَ أُمَّةٌ تُنْكِرُ الْإِقْرَارَ بِهَذَا وَكَذَلِكَ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ وُلِدَ صَغِيرًا وَأَنَّهُ رُبِّيَ بِالتَّغْذِيَةِ وَالْحَضَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى كَبُرَ وَهُوَ إذَا كَبُرَ لَمْ يَذْكُرْ إحْسَاسَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ تَمْيِيزِهِ، بَلْ لَا يُنْكِرُ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أُمُورَهُمْ الْبَاطِنَةَ مِثْلَ جُوعِ أَحَدِهِمْ وَشِبَعِهِ وَلَذَّتِهِ وَأَلَمِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَشْعُرْ بِهِ بِحَوَاسِّهِ الْخَمْسِ الظَّاهِرَةِ بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ يُصِيبُهُمْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مَا لَمْ يَشْعُرُوا بِهِ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ الظَّاهِرَةِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي بَنِي آدَمَ مَنْ لَا يُقِرَّ بِمَا كَانَ فِي غَيْرِ مَدِينَتِهِمْ مِنْ الْمَدَائِنِ وَالسِّيَرِ وَالْمَتَاجِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ وَهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى ذَلِكَ وَكَذَا لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الدُّورَ الَّتِي سَكَنُوهَا قَدْ بَنَاهَا الْبَنَّاءُونَ، وَالطَّبِيخَ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ طَبَخَهُ الطَّبَّاخُونَ وَالثِّيَابَ الْمَنْسُوجَةَ الَّتِي يَلْبَسُونَهَا نَسَجَهَا النَّسَّاجُونَ، وَإِنْ كَانَ مَا يُقِرُّونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُحِسَّهُ أَحَدُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ حَوَاسِّهِ الْخَمْسِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فَمَنْ قَالَ إنَّ أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُنْكِرُ هَذِهِ الْأُمُورَ، فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلُ.
وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّ السُّوفِسْطَائِيَّة قَوْمٌ يُنْكِرُونَ حَقَائِقَ الْأُمُورِ، وَأَنَّهُمْ مُنْتَسِبُونَ إلَى رَئِيسٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ سُوفُسْطًا وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الْعِلْمَ بِشَيْءٍ مِنْ الْحَقَائِقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ أَيْضًا مَعَ الْعُلُومِ، وَمِنْهُمْ اللَّا أدرية الَّذِينَ يَشُكُّونَ فَلَا يَجْزِمُونَ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُقِرُّ إلَّا بِمَا أَحَسَّهُ.
وَقَدْ رَدَّ هَذَا النَّقْلَ وَالْحِكَايَةَ مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَقَالَ إنَّ لَفْظَ السُّوفِسْطَائِيَّة فِي الْأَصْلِ كَلِمَةٌ يُونَانِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ أَصْلُهَا سُوفُسْقَيَا أَيْ الْحِكْمَةُ الْمُمَوَّهَةُ فَإِنَّ لَفْظَ سو مَعْنَاهُ فِي لُغَةِ الْيُونَانِ الْحِكْمَةُ وَلِهَذَا يَقُولُونَ فِيلًا سُوفَا أَيْ مُحِبُّ الْحِكْمَةِ وَلَفْظُ فُسْقَيَا مَعْنَاهُ الْمُمَوَّهَةُ.
وَمُعَلِّمُ الْمُسْتَأْخِرِينَ الْمُبْتَدِعِينَ مِنْهُمْ أَرِسْطُو لَمَّا قَسَّمَ حِكْمَتَهُمْ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى عِلْمِهِمْ إلَى بُرْهَانِيَّةٍ وَخَطَابِيَّةٍ وَجَدَلِيَّةٍ وَشِعْرِيَّةٍ وَمُمَوَّهٍ وَهِيَ الْمَغَالِيطُ سَمَّوْهَا سُوفُسْقِيَا فَعُرِّبَتْ وَقِيلَ سُوفُسْطَا ثُمَّ ظَنَّ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ ذَلِكَ اسْمُ رَجُلٍ وَإِنَّمَا أَصْلُهَا مَا ذُكِرَ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ السَّفْسَطَةِ قَدْ صَارَ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ عِبَارَةً عَنْ حَجَرِ الْحَقَائِقِ فَلَا رَيْبَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute