للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ، فَمِنْ الْأُمَمِ مَنْ يُنْكِرُ كَثِيرًا مِنْ الْحَقَائِقِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: ١٤] وَقَدْ تَشْتَبِهُ كَثِيرٌ مِنْ الْحَقَائِقِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ كَمَا قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ لِلْحِسِّ أَوْ الْعَقْلِ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَهَذَا كُلُّهُ مَوْجُودٌ كَوُجُودِ الْكَذِبِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، أَمَّا اتِّفَاقُ أُمَّةٍ عَلَى إنْكَارِ جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ، أَوْ عَلَى إنْكَارِ كُلٍّ مِنْهُمْ لِمَا لَمْ يَحْسَبْهُ، فَهُوَ كَاتِّفَاقِ أُمَّةٍ عَلَى الْكَذِبِ فِي كُلِّ خَبَرٍ أَوْ التَّكْذِيبِ لِكُلِّ خَبَرٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْعُلَمَاءِ وَالْعِلْمِ بِعَدَمِ وُجُودِ أُمَّةٍ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ كَالْعِلْمِ بِعَدَمِ وُجُودِ أُمَّةٍ بِلَا وِلَادَةٍ وَلَا اغْتِذَاءٍ وَأُمَّةٍ لَا يَتَكَلَّمُونَ وَلَا يَتَحَرَّكُونَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّ الْبَشَرَ لَا يُوجَدُونَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ.

فَكَيْفَ وَالْإِنْسَانُ هُوَ حَيٌّ نَاطِقٌ وَنُطْقُهُ هُوَ أَظْهَرُ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: ٢٣] وَالنُّطْقُ إمَّا إخْبَارٌ وَإِمَّا إنْشَاءٌ وَالْإِخْبَارُ أَصْلٌ فَالْقَوْلُ بِوُجُودِ أُمَّةٍ لَا تُقِرُّ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُخْبَرَاتِ إلَّا أَنْ تُحِسَّ الْمُخْبَرَ بِعَيْنِهِ يُنَافِي ذَلِكَ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالسُّمَنِيَّةِ الَّذِينَ نَاظَرُوا الْجَهْمَ، قَدْ غَالَطُوا الْجَهْمَ وَلَبَّسُوا عَلَيْهِ فِي الْجِدَالِ حَيْثُ أَوْهَمُوهُ أَنَّ مَا لَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ لَا يُقِرُّ بِهِ وَكَأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا لَا يُتَصَوَّرُ الْإِحْسَاسُ بِهِ لَا يُقِرُّ بِهِ فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ مَا لَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ لَا يُقِرُّ بِهِ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ هَذَا أَوْ هَذَا فَإِنْ أَرَادَ أُولَئِكَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، أَمْكَنَ بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ أَهْلُ بَلْدَتِهِمْ وَجَمِيعُ بَنِي آدَمَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَإِنْ أَرَادُوا الْمَعْنَى الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الْإِحْسَاسَ بِهِ لَا يُقِرُّ بِهِ فَهَذَا لَا يَضُرُّ تَسْلِيمُهُ لَهُمْ، بَلْ يُسَلَّمُ لَهُمْ.

يُقَالُ لَهُمْ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ وَسَمْعُ كَلَامِهِ بَلْ قَدْ سَمِعَ بَعْضُ الْبَشَرِ كَلَامَهُ وَهُوَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَسَوْفَ يَرَاهُ عِبَادُهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الشَّيْءِ مَوْجُودًا أَنْ يُحِسَّ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ، أَوْ أَنْ يُمْكِنَ إحْسَاسُ كُلِّ أَحَدٍ بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ بَلْ مَتَى كَانَ الْإِحْسَاسُ بِهِ مُمْكِنًا وَلَوْ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، صَحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْإِحْسَاسُ بِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>