للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا فَإِنَّهُ عِنْدَكُمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْزِلَهُ وَيُظْهِرَهُ غَيْرَ عَرَبِيٍّ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ كَيْفَ يَمْتَنُّ بِتَرْكِ فِعْلِهِ وَإِنَّمَا الْمُمْكِنُ أَنْ يُنْزِلَهُ أَوْ لَا يُنْزِلَهُ أَمَّا أَنْ يُنْزِلَهُ عَرَبِيًّا وَغَيْرَ عَرَبِيٍّ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُمْ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: ٤٤] فَعُلِمَ أَنَّ جَعْلَهُ عَجَمِيًّا كَانَ مُمْكِنًا وَعِنْدَهُمْ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَهَذَا أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْعِبَارَةَ مَخْلُوقَةً مُنْفَصِلَةً عَنْ اللَّهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ عَرَبِيًّا وَعَجَمِيًّا وَعِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْعِبَارَةِ الْمَخْلُوقَةِ لَا فِي نَفْسِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَعِنْدَهُمْ الْمَعْنَى الَّذِي عِبَارَتُهُ عَرَبِيَّةٌ هُوَ الَّذِي عِبَارَتُهُ سُرْيَانِيَّةٌ وَعِبْرَانِيَّةٌ فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هُوَ عَرَبِيٌّ لِكَوْنِ عِبَارَتِهِ كَذَلِكَ كَانَ كَلَامُ اللَّهِ هُوَ عَرَبِيٌّ عَجَمِيٌّ سُرْيَانِيٌّ عِبْرَانِيٌّ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ.

وَكِتَابُ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَرَبِيًّا وَأَنْ يَجْعَلَهُ عَجَمِيًّا وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَأَمَّا أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَطَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ خَالَفُوا الْمُعْتَزِلَةَ قَدِيمًا مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ ثُمَّ الْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَيُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ وَيَجْعَلُونَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْقَائِمَةَ بِذَاتِهِ مُتَعَلِّقَةً بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ كَمَا تَنَازَعَ غَيْرُهُمْ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْهُمْ فِي الْمُقْنِعِ قَوْلَيْنِ.

وَحَكَى الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَكِنَّ الْمَنْصُوصَ الصَّرِيحَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فَإِنَّ بِأَوَّلًا لَمَا قَالَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ فَنَفَى الْمُسْتَقْبَلَ كَمَا نَفَى الْمَاضِيَ قَالَ أَحْمَدُ فَكَيْف يَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ» ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ وَالْخَوَارِجُ إذَا شَهِدَتْ عَلَى الْكَافِرِينَ فَقَالُوا لَمْ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقْنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أَتَرَاهَا نَطَقَتْ بِجَوْفٍ وَشَفَتَيْنِ وَفَمٍ وَلِسَانٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْطَقَهَا كَمَا شَاءَ فَكَذَلِكَ تَكَلُّمُ اللَّهِ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ جَوْفٌ وَلَا فَمٌ وَلَا شَفَتَانِ وَلَا لِسَانٌ فَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ كَيْفَ يَشَاءُ.

وَمَنْ يَقُولُ بِالْأَوَّلِ يَقُولُ إنَّ تَكَلُّمَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ إذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ عِنْدَهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>