فَرَدَّ أَحْمَدُ هَذَا بِأَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ بِالْإِنْسَانِ الَّذِي كَانَ عَاجِزًا عَنْ التَّكَلُّمِ لِصِغَرِهِ حَتَّى خَلَقَ اللَّهُ لَهُ كَلَامًا فَمَنْ مَرَّ عَلَيْهِ وَقْتٌ وَهُوَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ فِيهِ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ إذَا شَاءَ مُقْتَدِرٌ عَلَى الْكَلَامِ كَانَ نَاقِصًا فَفِي ذَلِكَ كُفْرٌ بِجَحْدِ كَمَالِ الرَّبِّ وَصِفَتِهِ وَتَشْبِيهِهِ لَهُ بِالْإِنْسَانِ الْعَاجِزِ وَلِهَذَا قَالَ بَلْ نَقُولُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بَيْنَ كَوْنِهِ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَبَيْنَ كَوْنِ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَفْيُ التَّكَلُّمِ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَخْلُقَ التَّكَلُّمَ كَمَا لَا يَجُوزُ نَفْيُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالنُّورِ وَهَذَا هُوَ الْكَمَالُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْمُتَكَلِّمُ إذَا شَاءَ فَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ الْكَلَامِ فَهُوَ نَاقِصٌ قَبِيحٌ وَأَمَّا الَّذِي يَلْزَمُهُ الْكَلَامُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَيْضًا عَاجِزًا نَاقِصًا كَاَلَّذِي يُصَوِّتُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَالْأَصْوَاتِ الدَّائِمَةِ الَّتِي تَلْزَمُ الْجَمَادَاتِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا مِثْلُ النَّوَاعِيرِ.
وَلَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى مُوسَى وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ وَيَتَكَلَّمُ وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ إذَا كَانَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَيَتَكَلَّمُ وَيُنْطِقُهَا اللَّهُ تَعَالَى بِدُونِ حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ أَوْلَى بِالْغِنَاءِ مِنْ الْمَخْلُوقِ إذْ كُلُّ مَا ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ صِفَةِ كَمَالٍ كَالْغِنَاءِ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْلَى بِهِ فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَا اسْتَغْنَتْ عَنْهُ الْمَخْلُوقَاتُ فِي كَلَامِهَا.
ذَكَرَ أَنَّ الْجَهْمَيْ لَمَا خَنَقَتْهُ الْحُجَجُ قَالَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُهُ قُلْنَا غَيْرُهُ مَخْلُوقٌ، قَالَ نَعَمْ قُلْنَا هَذَا مِثْلُ قَوْلِكُمْ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّكُمْ تَدْفَعُونَ الشُّنْعَةَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِمَا تُظْهِرُونَ فَأَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إطْلَاقَ الْغَيْرِ عَلَى الْقُرْآنِ حَتَّى اسْتَفْسَرَهُ مَا أَرَادَ بِهِ إذْ لَفْظُ الْغَيْرِ مُجْمَلٌ يُرَادُ بِهِ الَّذِي يُفَارِقُ الْآخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ إنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَيُرَادُ بِهِ مَا لَا يَكُونُ هُوَ إيَّاهُ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ عَلَى الصِّفَةِ بِأَنَّهَا هِيَ الْمَوْصُوفُ أَوْ غَيْرُهُ، كَلَامٌ مُجْمَلٌ يُقْبَلُ بِوَجْهٍ وَيُرَدُّ بِوَجْهٍ، فَمَتَى أُرِيدَ بِالْغَيْرِ الْمُبَايَنَةَ لِلرَّبِّ كَانَ الْمَعْنَى فَاسِدًا وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِأَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ، كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ يَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَفْظُ الْغَيْرِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فَإِذَا قَالَ هُوَ غَيْرُهُ فَقِيلَ لَهُ نَعَمْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إيَّاهُ، قَالَ وَمَا كَانَ غَيْرُ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَغَيْرٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الثَّانِي إنَّمَا يَصِحُّ إذَا أُرِيدَ بِهَا مَا كَانَ بَائِنًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوقٌ فَيُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْغَيْرِ فِي إحْدَى الْمُقَدَّمَتَيْنِ بِمَعْنًى وَفِي الْمُقَدَّمَةِ الْأُخْرَى بِمَعْنًى آخَرَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِرَاكِ فَلِهَذَا اسْتَفْسَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَلَمَّا فَسَّرَ مُرَادَهُ قَالَ فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ مَتَى قُلْت هُوَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ قُلْت بِأَنَّهُ خَلَقَ شَيْئًا فَعَبَّرَ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَا تَكَلَّمَ وَلَا يَتَكَلَّمُ ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute