يَبِينُ بِجَعْلِهِ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ أَيْ هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِنَفْسِهِ بِذَلِكَ لَا غَيْرُهُ، وَمَنْ جَعَلَهُ مَخْلُوقًا لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ الْغَيْرُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ كَذَلِكَ وَنَحَلَهُ ذَلِكَ.
الرَّابِعُ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا لِيُبَيِّنَ حِكْمَةَ الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ كَانَ فِي مِثْلِ هَذَا، فَأَخْبَرَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْحَلْهُ ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَوَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْجَوَاب أَنَّهُ إذَا نَحَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ كَانَ ذَلِكَ مَخْلُوقًا بِخَلْقِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَلَا يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ نَاسَبَ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ وَمَا زَالَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ لَمْ يَزَلْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَهَذَا التَّفْرِيقُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ لِيَصِحَّ أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْمُسَمِّي لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ كَانَ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ أَسْمَاءَهُ مَخْلُوقَةٌ لِأَنَّ ظُهُورَ عَدَمِ خَلْقِ هَذَيْنِ لِلنَّاسِ أَبْيَنُ مِنْ ظُهُورِ عَدَمِ الْقَوْلِ بِفَسَادِ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ هَذَيْنِ وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ لَمْ يَصِحَّ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ الْحُجَّةِ، فَإِنَّ خَلْقَ الْحُرُوفِ وَحْدَهَا لَا تَسْتَلْزِمُ خَلْقَ الْعِلْمِ، وَهَكَذَا الْقَائِلُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ إنَّمَا يَقُولُونَ بِخَلْقِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ لِأَنَّ هَذَا هُوَ عِنْدَهُمْ الْقُرْآنُ لَيْسَ لِلْعِلْمِ عِنْدَهُمْ دَخْلٌ فِي مُسَمَّى الْقُرْآنِ.
وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ لَهُ الْأَثْرَمُ فَمَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَقَالَ لَا أَقُولُ إنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ وَلَا عِلْمُهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا أَقُولُ هُوَ كَافِرٌ، فَقَالَ هَكَذَا هُوَ عِنْدَنَا ثُمَّ اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ الْمُنْكِرِ فَقَالَ أَنَحْنُ نَحْتَاجُ أَنْ نَشُكَّ فِي هَذَا الْقُرْآنِ عِنْدَنَا فِيهِ أَسْمَاءُ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، فَمَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ عِنْدَنَا كَافِرٌ
فَأَجَابَ أَحْمَدُ بِأَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا بِخَلْقِ أَسْمَائِهِ وَعِلْمِهِ، فَقَوْلُهُمْ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ وَنَحْنُ لَا نَشُكُّ فِي ذَلِكَ حَتَّى نَقِفَ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ خَلْقَ أَسْمَائِهِ وَعِلْمِهِ، وَلَمْ يَقْبَلْ أَحْمَدُ قَوْلَهُمْ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَإِنْ لَمْ يُدْخِلُوا فِيهِ أَسْمَاءَ اللَّهِ وَعِلْمَهُ لِأَنَّ دُخُولَ ذَلِكَ فِيهِ لَا رَيْبَ فِيهِ كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي جِسْمٍ لَكِنْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَا ذَلِكَ الْجِسْمُ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَلَامُ ذَلِكَ الْجِسْمِ لَا كَلَامُ اللَّهِ، كَإِنْطَاقِ جَوَارِحِ الْعَبْدِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ نُطْقِهِ وَبَيْنَ إنْطَاقِهِ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَجْسَامِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute