للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّة لَمْ يَقُلْ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَةِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَكِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمَخْلُوقُ عِنْدَهُمْ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا، وَاَلَّذِينَ قَالُوا هُوَ مَخْلُوقٌ قَالُوا إنَّهُ خَلَقَهُ فِي جِسْمٍ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ فَقَالَ السَّلَفُ: إنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَأَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ ذَلِكَ الْجِسْمِ الْمَخْلُوقِ، فَتَكُونُ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ لِمُوسَى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: ١٤] وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِخَطَإِ مَنْ يَقُولُ إنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالْفِطْرَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا وَلُغَةً أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ، وَرُبَّمَا قَدْ يَقُولُونَ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا حَتَّى خَلَقَ الْكَلَامَ فَصَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ. فَتَوَهَّمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ السَّلَفَ عَنَوْا بِقَوْلِهِمْ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ كَتَوَهُّمِ مَنْ تَوَهَّمَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُفْتَرٍ مَكْذُوبٌ كَمَا ذَكَرَهُ هُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ لَهُمْ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ مَا رَوَى أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي الْغُرَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا سَهْلٍ وَلَا جَبَلٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ» .

وَرَوَى عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «يَا رَبَّ طَه وَيس وَيَا رَبَّ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ» قَالَ وَلَا يُقَالُ هَذَا مُعَارِضٌ بِمُبَالَغَةِ السَّلَفِ مِنْ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لِأَنَّا نَقُولُ بِحَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ إطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّ لَفْظَ الْخَلْقِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الِافْتِرَاءِ ضَرُورَةَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ.

قُلْت: وَجَوَابُ هَذِهِ الْحُجَّةِ سَهْلٌ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مُفْتَرًى عَلَيْهِ بِالضَّرُورَةِ، كَمَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ عَلَيْهِ، وَيَكْفِي أَنَّ نَقْلَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا بِإِسْنَادٍ مَعْرُوفٍ، بَلْ الَّذِي رَوَوْهُ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِالْإِسْنَادِ الْمَعْرُوفِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ بِشَهْرَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ صَلَّيْت مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى رَجُلٍ فَلَمَّا دُفِنَ قَامَ رَجُلٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>