قَالَ سُفْيَانُ تَفْسِيرُهُ إنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَكَلَامُهُ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِمَّا يَكُونُ بِهِ الْخَلْقُ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ.
وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمْ أَنَّ السَّلَفَ امْتَنَعُوا مِنْ لَفْظِ الْخَلْقِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الِافْتِرَاءِ فَأَلْفَاظُ السَّلَفِ مَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ نَحْوِ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ السَّلَفِ كُلُّهَا تُصَرِّحُ بِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْخَلْقَ الَّذِي تَعْنِيهِ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ كَوْنِهِ مَصْنُوعًا فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ، كَمَا أَنَّهُمْ سَأَلُوا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ خَالِقٌ أَوْ هُوَ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ.
وَمِثْلُ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قِيلَ لَهُ حَكَّمْت مَخْلُوقًا فَقَالَ مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا وَإِنَّمَا حَكَّمْت الْقُرْآنَ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَهَذَا الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ لَيْسَ مَعْنَاهُ مَا قَالَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَلَا مَا قَالَتْهُ الْكِلَابِيَّةُ، وَهَذَا الرَّازِيّ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ يُنَافِي مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ لَمْ يَقُلْ هَذَا وَلَا هَذَا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا، وَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ اعْتِصَامُهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ بِدَعْوَى إجْمَاعٍ وَالْإِجْمَاعُ الْمُحَقَّقُ عَلَى خِلَافِهِ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ لَمْ تَصِحَّ الْحُجَّةُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ الْمُحَقَّقُ السَّلَفِيُّ عَلَى خِلَافِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إنَّ الرَّجُلَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فِي خَلْقِ الْكَلَامِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ حَيْثُ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ سَمَّتْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ كَلَامَ اللَّهِ وَهُمْ لَمْ يُسَمُّوهُ كَلَامَ اللَّهِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ لَمَّا ابْتَدَعَتْ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ أَوْ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَقَالُوا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، فَلَوْ كَانَ مَا وَصَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ هُوَ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ أَيْضًا وَإِنَّمَا خَالَفُوهُمْ فِي تَسْمِيَةِ كَلَامِ اللَّه أَوْ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْمُخَالَفَةُ الْعَظِيمَةُ وَالتَّكْفِيرُ الْعَظِيمُ بِمُجَرَّدِ نِزَاعٍ لَفْظِيٍّ كَمَا قَالَ هُوَ إنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ يَسِيرٌ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْإِطْنَابَ لِأَنَّهُ بَحْثٌ لُغَوِيٌّ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِيمَا أَطْلَقَتْهُ لَمْ تُنَازِعْ إلَّا فِي بَحْثٍ لُغَوِيٍّ، لَمْ يَجِبْ تَكْفِيرُهُمْ وَتَضْلِيلُهُمْ وَهِجْرَانُهُمْ بِذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لَا يُضَلِّلُونَهُمْ فِي تَأْوِيلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute