للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِهِ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَمْرِ هَلْ لَهُ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا، أَوْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: فَذَهَبَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَهُ صِيغَةٌ، تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا، إذَا انْفَرَدَتْ عَنْ الْقَرَائِنِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: " افْعَلْ كَذَا وَكَذَا " وَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ عَارِيًّا عَنْ الْقَرَائِنِ كَانَ أَمْرًا، وَلَا يَحْتَاجُ فِي كَوْنِهِ أَمْرًا إلَى قَرِينَةٍ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَجَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَلْخِيّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَسْرِهَا، غَيْرَ الْبَلْخِيّ، إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا صِيغَةَ لَهُ وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا بِقَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ بِهِ، وَهُوَ الْإِرَادَةُ. إلَى أَنْ قَالَ: وَذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِ الْآمِرِ لَا يُفَارِقُ الذَّاتَ وَلَا يُغَايِرُهَا، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ سَائِرُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ مِنْ النَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ هَذَا فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ الْآدَمِيِّينَ، إلَّا أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِكَوْنِهِ قَدِيمٌ، وَأَمْرُ الْآدَمِيِّ مُحْدَثٌ، وَهَذِهِ الْأَصْوَاتُ وَالْأَلْفَاظُ لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا، وَإِنَّمَا هِيَ عِبَارَةٌ عَنْهُ.

قَالَ: وَكَانَ ابْنُ كِلَابٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ يَقُولُ: هِيَ حِكَايَةٌ عَنْ الْأَمْرِ، وَخَالَفَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا حِكَايَةٌ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ، وَلَكِنْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَمْرِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَتَقَرَّرَ مَذْهَبُهُمْ عَلَى هَذَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَقِيقَةَ مَذْهَبِهِمْ فَلَيْسَ يُتَصَوَّرُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ لَهُ صِيغَةٌ أَمْ لَا، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ فَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُقَالُ إنَّ لَهُ صِيغَةً، أَوْ لَيْسَتْ لَهُ صِيغَةٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْأَلْفَاظِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْكَرْخِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ، عَنْ الْأَئِمَّةِ الْفُحُولِ، إلْزَامًا لِذَوِي الْبِدَعِ وَالْفُضُولِ " وَذَكَرَ اثْنَا عَشَرَ إمَامًا وَهُمْ: الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، قَالَ فِيهِ: سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: سَمِعْت الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ يَقُولُ: مَذْهَبِي

<<  <  ج: ص:  >  >>