وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ، فَيَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ: أَنْ لَا عِقَابَ إلَّا بَعْدَ الْإِرْسَالِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عِقَابٌ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا. وَفِي السُّنَّةِ دَلَائِلُ كَثِيرَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَهَادَةُ شُهَدَاءِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، الَّذِينَ هُمْ عُدُولٌ، الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ، الْمَعْصُومِينَ مِنْ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى ضَلَالَةٍ، الْمَفْرُوضِ اتِّبَاعُهُمْ، وَذَلِكَ أَنِّي لَسْت أَعْلَمُ خِلَافَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ السَّالِفِينَ فِي أَنَّ مَا لَمْ يَجِئْ دَلِيلٌ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ، وَأَحْسَنَ بَعْضُهُمْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ يَقِينًا، أَوْ ظَنًّا كَالْيَقِينِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ إجْمَاعٌ، وَقَدْ عَلِمْت اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الْأَعْيَانِ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ؟ هَلْ الْأَصْلُ فِيهَا الْحَظْرُ، أَوْ الْإِبَاحَةُ، أَوْ لَا يَدْرِي مَا الْحُكْمُ فِيهَا، أَوْ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهَا أَصْلًا؛ وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ دَلِيلٌ مُتَّبَعٌ، وَأَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَلَى: أَنَّ حُكْمَ الْأَعْيَانِ الثَّابِتَ لَهَا قَبْلَ الشَّرْعِ مُسْتَصْحَبٌ بَعْدَ الشَّرْعِ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الْحَظْرُ، اسْتَصْحَبَ هَذَا الْحُكْمَ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْحِلِّ.
فَأَقُولُ: هَذَا قَوْلٌ مُتَأَخِّرٌ لَمْ يُؤْثَرْ أَصْلُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّابِقِينَ مِمَّنْ لَهُ قِدَمٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا بَعْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ زَالَ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَصْلِ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْتهَا، وَلَسْت أُنْكِرُ أَنَّ بَعْضَ مَنْ لَمْ يُحَطْ عِلْمًا بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ، وَلَمْ يُؤْتَ تَمْيِيزًا فِي مَظَانِّ الِاشْتِبَاهِ، رُبَّمَا سَحَبَ ذَيْلَ مَا قَبْلَ الشَّرْعِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، إلَّا أَنَّ هَذَا غَلَطٌ قَبِيحٌ، لَوْ نُبِّهَ لَهُ لَتَنَبَّهَ، مِثْلُ الْغَلَطِ فِي الْحِسَابِ، لَا يَهْتِكُ حَرِيمَ الْإِجْمَاعِ، وَلَا يَثْلِمُ سُنَنَ الِاتِّبَاعِ.
وَلَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ أَمْ مُمْتَنِعَةٌ؟ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَخْلُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، إذْ كَانَ آدَم نَبِيًّا مُكَلَّمًا حَسَبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي جَوَازِ خُلُوِّ الْأَقْطَارِ عَنْ حُكْمٍ مَشْرُوعٍ، وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ عِنْدَنَا جَوَازَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَضَهَا فِيمَنْ وُلِدَ بِجَزِيرَةٍ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُبَيَّنُ لَك أَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute