سَكْتَتَيْنِ، فَعُلِمَ أَنَّ إحْدَاهُمَا طَوِيلَةٌ وَالْأُخْرَى بِكُلِّ حَالٍ لَمْ تَكُنْ طَوِيلَةً مُتَّسِعَةً لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ خَلْفَهُ إمَّا فِي السَّكْتَةِ الْأُولَى وَإِمَّا فِي الثَّانِيَةِ لَكَانَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، فَكَيْفَ وَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّكْتَةِ الثَّانِيَةِ خَلْفَهُ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَكَانَ الصَّحَابَةُ أَحَقَّ النَّاسِ بِعِلْمِهِ، وَعَمَلِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ.
وَأَيْضًا فَالْمَقْصُودُ بِالْجَهْرِ اسْتِمَاعُ الْمَأْمُومِينَ، وَلِهَذَا يُؤَمِّنُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِ دُونَ السِّرِّ، فَإِذَا كَانُوا مَشْغُولِينَ عَنْهُ بِالْقِرَاءَةِ فَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُحَدِّثَ مَنْ لَمْ يَسْتَمِعْ لِحَدِيثِهِ، وَيَخْطُبَ مَنْ لَمْ يَسْتَمِعْ لِخُطْبَتِهِ، وَهَذَا سَفَهٌ تُنَزَّهُ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ.
وَلِهَذَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا» فَهَكَذَا إذَا كَانَ يَقْرَأُ وَالْإِمَامُ يَقْرَأُ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مَأْمُورًا بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ، لَمْ يَشْتَغِلْ عَنْ ذَلِكَ بِغَيْرِهَا، لَا بِقِرَاءَةٍ، وَلَا ذِكْرٍ، وَلَا دُعَاءٍ، فَفِي حَالِ جَهْرِ الْإِمَامِ لَا يَسْتَفْتِحُ، وَلَا يَتَعَوَّذُ.
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ.
وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ.
قِيلَ: إنَّهُ حَالَ الْجَهْرِ يَسْتَفْتِحُ وَيَتَعَوَّذُ، وَلَا يَقْرَأُ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِمَاعِ يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ؛ بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُمَا.
وَقِيلَ: يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ، لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ تَابِعٌ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ التَّعَوُّذِ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِلْقِرَاءَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ لَا يَتَعَوَّذُ.
وَقِيلَ: لَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ حَالَ الْجَهْرِ، وَهَذَا أَصَحُّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ عَمَّا أُمِرَ بِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي حَالِ