لكن دلت الأحاديث الصحيحة: حديث أنس وأم سلمة وعائشة، على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاس المرأة على الرجل، ففي سؤال أم سليم: المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، أتغتسل؟ ثم جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بأنها تغتسل إذا رأت الماء فقط، فهذا هو معنى كون الرجل يجد البلة في ثيابه إذا استيقظ من النوم، فإن كان ذكر احتلامًا فالأحاديث قاضية بوجوب اغتساله، وأما إذا لم يذكر احتلامًا ففيه تفصيل يأتي ذكره.
ثم تعليق النبي - صلى الله عليه وسلم - إيجاب الغسل برؤية الماء؛ دليل على أن الرجل والمرأة كلاهما إذا ذكرا احتلامًا ولم يريا أثرًا في ثيابهما فلا غسل عليهما.
ثم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس -الرواية الثانية-: "إذا كان منها ما يكون من الرجل فلتغتسل": ظاهر في قياس المرأة على الرجل في هذا الباب، وأن كلًّا منهما إذا رأى الماء مع ذكر الاحتلام فقد وجب عليه الغسل، وإذا ذكر احتلامًا ولم ير أثرًا فلا غسل عليه.
ثم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا:"هن شقائق الرجال" [أي: نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع، فكأنهن شُققن من الرجال. معالم السنن (١/ ٦٨)]: ظاهر أيضًا في التسوية بين الرجل والمرأة في حكم هذه المسألة، لكن هذا يبنى على ثبوت الحديث، وفي ثبوته نظر، لكونه لا يحفظ إلا من حديث أم سليم، وفي سنده انقطاع.
وأما ما جاء في حديث العمري: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلامًا؟ قال:"يغتسل"، فلو صح هذا لكان فصلًا في المسألة، وإنما نقول بإيجاب الغسل عليه إذا ذكر احتلامًا لما دل عليه ما صح من الأحاديث، مثل: حديث أم سلمة [الآتي ذكره]: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال:"نعم؛ إذا رأت الماء"؛ فحصل تعليق الحكم هنا بوقوع أمرين معًا، وهما ذكر الاحتلام، ورؤية الماء، فإذا تخلف أحدهما لم يلزم الحكم حينئذ كما هو مقرر في الأصول.
لكن يمكن أن نقول: إذا لم يكن ثم سبب لنزول هذا الماء قبل النوم، فلا يمكن وجوده إذًا إلا في حال النوم بالاحتلام، ولو استدل مستدل حينئذ بأثر عمر وعثمان، لكان جيدًا، فإن أحدًا منهما لم يذكر أنه احتلم، ففي قول عمر:"احتلمت وما شعرت، وصليت وما اغتسلت" ما يدل على أنه لم يذكر احتلامًا، ثم رأى في ثيابه أثر الماء الدافق، ولم يعلم وجود سبب قبل النوم يقتضي نزوله، فقام واغتسل وغسل أثر الماء من ثيابه، وأعاد الصلاة.
قال الترمذي بعد حديث العمري في الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلامًا: "وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين: إذا استيقظ الرجل فرأى بلة: أنه يغتسل، وهو قول سفيان الثوري وأحمد.
وقال بعض أهل العلم من التابعين: إنما يجب عليه الغسل إذا كانت البلة بلة نطفة، وهو قول الشافعي وإسحاق.