في منزل أحدٍ، أن يقدِّموا أقرأَهم وأفقهَهم وأسنَّهم، فإن لم يجتمع ذلك في واحد فإن قدَّموا أفقههم إذا كان يقرأ القرآن فقرأ منه ما يُكتفى به في صلاته فحسنٌ، وإن قدَّموا أقرأَهم إذا كان يعلم من الفقه ما يلزمه في الصلاة فحسنٌ، ويقدِّموا هذين معًا على من هو أسنُّ منهما، وإنما قيل -والله تعالى أعلم-: أن يؤمَّهم أقرؤهم أن من مضى من الأئمة كانوا يسلمون كبارًا، فيتفقهون قبل أن يقرؤوا القرآن، ومَن بعدهم كانوا يقرؤون القرآن صغارًا قبل أن يتفقهوا، فأشبه أن يكون من كان فقيهًا إذا قرأ من القرآن شيئًا أولى بالإمامة؛ لأنه قد ينوبه في الصلاة ما يعقل كيف يفعل فيه بالفقه، ولا يعلمه من لا فقهَ له، وإذا استووا في الفقه والقراءة أَمَّهم أسنُّهم، وأمْرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يؤمَّهم أسنُّهم -فيما أرى والله تعالى أعلم- أنهم كانوا مشتبهي الحال في القراءة والعلم، فأمَر أن يؤمَّهم أكبرُهم سنًّا، ولو كان فيهم ذو نسب فقدَّموا غير ذي النسب أجزأهم، وإن قدَّموا ذا النسب اشتبهت حالهم في القراءة والفقه كان حسنًا؛ لأن الإمامةَ منزلةُ فضلٍ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدِّموا قريشًا ولا تقدَّموها" [قلت: قال البيهقي في السنن (٣/ ١٢١): "هذا مرسل، وروي موصولًا، وليس بالقوي"]، فأُحبُّ أن يُقَدَّمَ من حضر منهم اتِّباعًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا كان فيه لذلك موضعٌ ...
قال الشافعي: وصاحب المسجد كصاحب المنزل، فأكره أن يتقدَّمه أحدٌ إلا السلطان.
ومَن أمَّ من الرجال ممن كَرِهْتُ إمامَتَه فأقام الصلاة أجزأتْ إمامَتُه، والاختيار ما وصفتُ من تقديم أهل الفقه والقرآن والسن والنسب.
وإن أمَّ أعرابيٌّ مهاجرًا، أو بدويٌّ قرويًّا فلا بأس إن شاء الله تعالى؛ إلا أني أحب أن يتقدَّم أهلُ الفضل في كل حالٍ في الإمامة، ومَن صلى صلاةً من بالغٍ مسلمٍ يقيم الصلاة أجزأته ومَن خلفَه صلاتُهم، وإن كان غير محمود الحال في دينه، أَيَّ غايةٍ بلغ يخالف الحمد في الدين، وقد صلى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خلف من لا يحمدون فعاله من السلطان وغيره".
وقال محمد بن الحسن الشيباني في الآثار (١٥٩): "وإنما قيل: "أقرؤهم لكتاب الله"؛ لأن الناس كانوا في ذلك الزمان أقرأهم للقرآن أفقههم في الدين، فإذا كانوا في هذا الزمان على ذلك، فليؤمهم أقرؤهم، فإن كان غيره أفقه منه وأعلم بسنة الصلاة وهو يقرأ نحوًا من قراءته، فأفقههما وأعلمهما بسنة الصلاة أولاهما بالإمامة، وهو قول أبي حنيفة".
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح (٥٣٦): "قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة"، فينبغي للذي يقرأ القرآن أن يتعلم من السنة ما يقيم به صلاته؛ فهو حينئذ أولى بالصلاة".
وقال ابنه عبد الله: "سألت أبي عمن يتقدم في الصلاة: رجل يحفظ القرآن لا يرفع يديه إذا ركع، أو رجل يرفع لا يحفظ القرآن؟ قال:"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله"، وينبغي له أن يرفع يديه لأنه السنة" [مسائل عبد الله (٢٥٢)].